تظهر آراء المسيري المتصلة بالمسألة الدينية، والنص الديني عموما، من خلال تناوله لمجموعة من القضايا.. طبعا المسيري ليس متخصصا في العلوم الإسلامية أو الدينية، وهو بالمناسبة لا يدعي ذلك أبدا، لكن استقراءنا الدؤوب والمتأني لمجموعة من الإشكالات التي هي من اختصاص (أهل الذكر) في المسألة الدينية، تنم على امتلاك الرجل لأدوات معرفية وجهاز مفاهيمي أوصله إلى إنتاج آراء تميزت بالدقة والعمق.
ومن خلال إنجازنا لهذا الاستقراء - الأولي - استطعنا أن نقسم تلكم الآراء إلى ثلاث مجموعات أساسية، قسمناها للداعي المنهجي وهي في حقيقتها قد تكون متداخلة فيما بينها:
المجموعة الأولى: تلك الآراء التي يبديها المسيري في مجموعة من القضايا التي هي من صميم الاشتغال الديني، من مثل مسألة (التوحيد)..
المجموعة الثانية: آراء للمسيري في قضايا فكرية وفلسفية استطعنا أن نجد لها أصولا- أو تأويلا- في بنية النص الديني- الإسلامي.. من مثل تحليله للنسق الديني اليهودي وملاحظته مدى التشابه بين هذا النسق والنسق المادي (الشركي في المصطلح الإسلامي).. وأيضا ربطه بين الفلسفة المادية والنزعة الإبادية.. إلى غير ذلك من المسائل التي استطاع المسيري أن ينسجم فيها مع روح النص الديني.
ونحن في هذا الإطار لا نحاول أن نوجد لآراء المسيري الفكرية أو الفلسفية مخارج دينية ومسوغات إسلامية، من خلال إسقاطات تعسفية أو تأويلات فاسدة، بل إننا نقول إن أي باحث يلزم نفسه بشيء من التجرد والانطلاق من دراسة متأنية للقضايا المتعلقة بالإنسان فإنه ولا شك لن يتصادم مع روح النص الإلهي؛ خاصة وأن أي إنسان - كيفما كان توجهه العقدي والفلسفي- يحوي في داخله نفخة من روح الله تعالى (أو ما يسميه المسيري بالقبس الإلهي).. ولعل أبلغ عبارة تلخص لنا هذا التوجه هو قول المسيري: بدل الوصول إلى الإنسان من خلال الله، وصلت إلى الله من خلال الإنسان. فهذا القبس ? أو تلك النفخة - المركوز في النفس البشرية هو الذي قاد المسيري إلى الله.
المجموعة الثالثة: هي مجموعة من الآراء والفهوم التي أبداها المسيري من خلال ذكره لمجموعة من النصوص المقدسة؛ عنيت النص القرآني والنص النبوي. ويمكن تقسيم هذه المجموعة إلى قسمين، يتضمن القسم الأول تلك الآراء والفهوم التي يستنبطها المسيري من تلكم النصوص.. ويتضمن القسم الثاني نموذجا من كيفية التعامل مع بعض النصوص المقدسة، خاصة من خلال استخدام المنهج المعرفي.
وقد ارتأينا ألا نخص كل مجموعة بالحديث حولها، بل سنتناول ما تضمنته هذه المجموعات وفق موضوعات...
في حتمية (الميتافيزيقا) أو (النظرية الكبرى الحاكمة):
ينطلق المسيري في مقاربته وفهمه لمجمل الأفكار والتصورات والظواهر انطلاقا من الرؤى الكبيرة - الكلية التي تفرزها. حيث لا يستقيم فهمنا لبنية الأفكار ومسار الظواهر وكشف العلاقة التي تربط مختلف الظواهر بعضها ببعض إلا إذا كنا على درجة كبيرة من الوعي بالناظم الفكري الذي ينظم هذه الأفكار والظواهر.
بداية يقول المسيري باستحالة التخلي عن محاولة الوصول إلى نظرية حاكمة كبرى، تمنح للإنسان رؤية للكون وللأمور المعرفية الكلية والنهائية.
فرغم اعتراف المسيري بوجود مجموعة من (القصص الصغرى) في الواقع (كما هو مذهب الاتجاه المابعد- حداثي)، إلا أنه يقرر بأن هناك داخل كل قصة ? مهما بلغت من صغر- قصة كبرى.(اليد الخفية 303).
فليس هناك مفر من تبني نظرية كبرى أو رؤية كلية.. فمهما ادعى الإنسان أنه بمنأى عن مثل هذه القضايا الفلسفية الكلية لا يمكن أن يظل وفيا لزعمه وادعائه هذا. بل يذهب المسيري بعيدا إلى القول بأن الإنسان إن لم يطور نظرية كبرى فسيكون حتما محاصرا بأمرين اثنين على الأقل، وهما:
الأمر الأول: وقوع الإنسان فريسة النظرية الكبرى للآخر وضحية لما يسمى (إمبريالية المقولات)، ولعل العبارة الدقيقة التي يمكن تختزل فكره في هذا الصدد تتمثل في المقولة التالية: إن الإنسان لا يتحرك في فراغ ولا يدرك الواقع بشكل حسي مباشر. وهذا الإدراك مرتبط برؤية الإنسان لنفسه وللكون وللآخر، وأن ثمة نموذجا كامنا وراء كل الظواهر. (الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية دراسة في الإدراك والكرامة 20، اليد الخفية 303).
وفي رأي المسيري فإن الإنسان يتأرجح بين رؤيتين أساسيتين للإنسان: رؤية تنظر للإنسان باعتباره كيانا مركبا يختلف عن كل الكيانات الأخرى لا في نوعه وإنما في درجة تركيبيته، التي يمكن تفسيرها في (نهاية الأمر) بما هو مادي وطبيعي، أي أنه يمكن تفسير الإنسان، كل الإنسان، من خلال قوانين الطبيعة (...). وهناك رؤية ترى الإنسان باعتباره كيان ا فريدا مركبا مختلفا عن كل الكائنات الأخرى اختلافا عميقا في النوع والدرجة(...)؛ إذ وفق هذه الرؤية يظل الإنسان شامخان يستعصي في كليته عن التفسير المادي الكمي(...).
وتنطلق كتابات المسيري الفكرية والفلسفية من مسلمة الإيمان بوجود فروق جوهرية كيفيا بين عالم الإنسان وعالم الطبيعة/المادة.
فالرؤية الأولى تعتبر الطبيعة نظاما يتحرك بلا هدف أو غاية، نظاما واحديا مغلقا مكتفيا بذاته، توجد مقومات حياته وحركته داخله، يحوي داخله ما يلزم لفهمه، لا يشير على أي هدف أو غرض خارجه.
هذه الرؤية ملتزمة بنوع من التفكير الذي يرى أسبقية الطبيعة على الإنسان يستوعبه فيها ويختزله إلى قوانينها ويخضعها إلى حتمياتها بحيث يصبح جزءا لا يتجزأ منها ويختفي ككيان مركب متجاوز للطبيعة والمادة، منفصل نسبيا عما حوله وله قوانينه الإنسانية الخاصة، أي- يقول المسيري- أن الحيز الإنساني يختفي ويبتلعه الحيز المادي، وبدلا من ثنائية الإنساني والطبيعي تظهر الواحدية الطبيعية. (الإنسان والحضارة والنماذج المركبة دراسات نظرية وتطبيقية 382- 383).
فلسفة التجاوز وظهور المسافات: بنيوية المسافات في فلسفة التجاوز
هاتان الرؤيتان بدورهما نتيجة لنوعين من المرجعيات: مرجعية التجاوز والتعالي ومرجعية الحلول والكمون.
والتجاوز كما يفهمه المسيري هو أن يرقى الإنسان ويتعالى على حدوده الطبيعية والمادية وإن ظل داخلها. ويمكن أن يطبق هذا المفهوم على الإله فتكون المقولة على الشكل التالي: إن الإله يتجاوز كل حدود الزمان والمكان، فهو منزه عنهما وعن عالم الطبيعة/المادة وعن الإنسان.(الإنسان والحضارة 384).
والإيمان بموجود متعال يتجاوز كلا من الطبيعة والإنسان هو سمة المنظومات التوحيدية، وهو مركز الكون، مركز غير مادي، يتجاوز المادة ولا يحل فيها أو يتوحد معها.(الإنسان والحضارة 384).
والتوحيد كما يعرفه المسيري هو: الإيمان بأن المبدأ الواحد، مصدر تماسك العالم ووحدته وحركته وغايته، ومرجعيته النهائية، وركيزته الأساسية، ومطلقه الذي لا يرد إلى شيء خارجه- هو الإله، خالق الطبيعة والتاريخ، وهو خالق البشر، الذي يحركهم ويمنحهم المعنى ويزودهم بالغاية، ولكنه مع هذا مفارق لهم لا يحل فيهم أو في مخلوقاته ولا يتوحد معهم.(اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود 224).
ونرى أنه من الضروري أن نشير إلى أن المسيري بعد أن يؤكد أن مصدر الوحدة في الوجود ومركز الكون غير المنظور ليس كامنا أو حالا في العالم، كما هو شأن الإله الواحد المفارق المنزه في النظم التوحيدية.. بعد هذا التأكيد، يضيف المسيري أن النظم الهيومانية الإنسانية أيضا تميل إلى الاعتقاد بوجود مسافة بين الإنسان والطبيعة.. أو بعبارة المسيري: الإنسان المتميز عن الطبيعة.(اليد الخفية 299)
ونعتقد أن الفلسفة الهيومانية لا يمكن أن تكون رؤية مستقلة بذاتها، بل هي تتأرجح بين الاقتراب من المرجعية المتجاوزة التي تنطلق من منطلق أن الإنسان يحوي داخله القبس الإلهي، وبين الرؤية الأخرى التي لا تقول بالتجاوز. ونضيف أن كل ابتعاد من الرؤية الأولى هو اقتراب من الرؤية الثانية، والعكس صحيح. فالرؤية الهيومانية تبتعد شيئا ما عن الرؤية المادية وتقترب من الرؤية المتجاوزة. ويميل المسيري إلى القول بأن الفلسفة الإنسانية كامنة في الفلسفة المادية.
إن فلسفة التجاوز في فكر المسيري تستحضر في تحليلها مسألة مركزية وهي أنه مع الإقرار بكون الإنسان جزءا لا يتجزأ من الطبيعة، إلا أنه في الآن نفسه متجاوز لها.
إن تجاوز الإنسان للطبيعة هو الذي جعل الإنسان يشكل ثغرة في النظام الطبيعي المادي، فهو كائن قادر على إنجاز فعلين أساسين متسمين معا ب(التجاوز):
أولهما: قدرة الإنسان على تجاوز الجوانب الطبيعية في ذاته، وثانيهما: قدرته على تجاوز الطبيعة - المادة ذاتها. (اليد الخفية 300)
وإن الإقرار بوجود مسافة أو ثغرات أو ثنائيات هو الذي يقود إلى الإقرار بإمكانية التجاوز.. وإنكارها يؤدي إلى إنكار إمكانية التجاوز. وبالمناسبة، فإن هذه المسافة( بين الإنسان والطبيعة) لا يمكن أن تسد تماما( مثل المسافة التي تفصل الخالق عن المخلوق). فمصدر وجود واستمرار هذه المسافة وبالتالي هذا التجاوز هو ذلك الجانب الرباني في الإنسان اللصيق تماما بإنسانية الإنسان. (اليد الخفية 300).
ويزيد المسيري هذه النقطة توضيحا مشيرا إلى أن المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة لعالم المادة( مثل العقائد التوحيدية) تحتفظ بالحدود الفاصلة بين الخالق العلي المتجاوز وبين مخلوقاته، فهو مركز النموذج المفارق والمتجاوز له.(اللغة والمجاز 226).
ومن اللفتات الجميلة التي يوردها المسيري، في هذا الصدد، هو قوله: إن المسافة بين الخالق والمخلوق تظل قائمة، لا يمكن اختزالها مهما كانت درجة اقتراب المؤمن من الإله. ويضيف: لا يمكن في الإطار التوحيدي أن (يصل) المت صوف إلى الالتصاق بالإله أو الاتحاد به أو الفناء فيه، فثمة مسافة جوهرية ثابتة. ومن بين الاستنباطات الذكية والعميقة التي يوظفها المسيري أثناء تعزيزه لفلسفة المسافة ومرجعية التجاوز قوله أنه حتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم (يصل)، بل ظل في أقصى حالات الاقتراب قاب قوسين أو أدنى.(اللغة والمجاز 226).
ففي الإسلام - يقول المسيري- الله عز وجل مفارق عن الإنسان، وهذه مسألة لا يمكن الحوار بشأنها، كما بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (11) سورة الشورى؛ نقترب منه ونبتعد عنه لكن المسافة بيننا وبين الله موجودة.(العقل الإسلامي بين الأنا والآخر، ص: 42)
ويذكر المسيري أن الثنائية سمة أساسية في النظم التوحيدية حيث يمثل التجاوز عمقها الفلسفي. وأم الثنائيات- أو الثنائية الأساسية كما يسميها المسيري- في النظم التوحيدية هي ثنائية الخالق(المنزه عن الإنسان والطبيعة والتاريخ) والمخلوق.(رحلتي الفكرية 137).
ومن خصائص هذه الثنائية أنها فضفاضة تكاملية: فالإله مفارق للعالم إلا أنه لم يهجره ولم يتركه وشأنه. فهناك تفاعل بين عنصري الثنائية، فالإله خلق العالم ونفخ فيه من روحه ولم يهجره بل دخل في علاقة معه فهو يرعاه.(اليد الخفية 299)
ويميز المسيري بين الثنائية والاثنينية أو الازدواجية؛ إذ في الأولى نكون أمام عنصرين قد يكونان متكافئين أو غير متكافئين، ولكنهما مع هذا يتفاعلان ويتدافعان. أما في الاثنينية فهما إما:
1- عنصرين مختلفين تمام الاختلاف يكادان يكونان متعادلين( مثل إله الخير والنور وإله الشر والظلام في بعض العبادات الوثنية)، ولذا يدخلان في صراع أزلي أو شبه أزلي.
2- وإما عنصرين متعادلين تمام التعادل، متكاملي تمام التكامل، فنعود للواحدية مرة أخرى.(رحلتي الفكرية 138).
مفهوم المسافة وجدلية (الانفصال والاتصال) بين (الخالق والمخلوق):
يحدد المسيري جوهر النسق التوحيدي الإسلامي في مفهوم المسافة، الذي يؤكد علاقة الانفصال والاتصال بين الخالق والمخلوق. ويزيد المسيري هذه النقطة بيانا مشيرا إلى أن الله- سبحانه- ليس كمثله شيء، فهو غياب إمبريقي كامل، ولا يمكن أن يدرك بالحواس، ولكنه، في الوقت نفسه، أقرب إلينا من حبل الوريد، دون أن يتحكم بنا ويجري في دمائنا، ويصبح بذلك جزءا من عالم الصيرورة.
بكلمة، إن الحضور الإلهي لا يأخذ شكل تجسد مادي. وإيمان الإنسان به هو عنصر ذاتي، فهو في القلب، ولكنه ليس ذاتيا تماما، فهو يستند إلى العلامات والقرائن مثل سنن الطبيعة. (اللغة والمجاز 134)
المجاز اللغوي كأداة لتقريب المسافة بين الدال - الخالق والمدلول - المخلوق:
يعتبر المسيري المجاز اللغوي أداة الإنسان للتعبير عن أفكار ورؤى مركبة لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الطريقة (اللغة والمجاز 17).. وإذا أرادت اللغة التعبير عن فكرة (الله) و(الغيب)، فإن المسافة تتسع وتتسع. (اللغة والمجاز 14).
والمسافة- في تصور المسيري- لا يمكن عبورها، ولكن يمكن تقريبها وتحويلها إلى مجال للتفاعل عن طريق المجاز.
هذه الوظيفة التي يقوم بها المجاز تتم من خلال ما يقوم به من توسيع من نطاق اللغة الإنسانية، وجعلها أكثر مقدرة على التعبير عن الإنساني المركب واللامحدود.
هذه الأدوار الموكلة إلى المجاز تتم عادة- كما يقول المسيري- عن طريق ربط المجهول بالمعلوم، والإنساني بالطبيعي، والمعنوي بالمادي، واللامحدود بالمحدود، وهو ربط لا ينجم عنه مزج عضوي بينهما وإنما تحويل الواحد منهما إلى طريقة لاستكشاف الآخر، إذ تظل المسافة بينهما قائمة رغم عملية الربط بينهما. (اللغة والمجاز 14)
ويلاحظ المسيري أن مفهوم المسافة يتبدى من خلال علاقة الدال بالمدلول في الإطار التوحيدي، فهي علاقة اتصال وانفصال بحيث لا يلتحم الدال بالمدلول، فالمدلولات- كما يقول- متشابكة فضفاضة، واللغة تصبح متشابكة فضفاضة تصلح للتواصل بين البشر رغم عدم كمالها. (اللغة والمجاز 134 / 135)
ولا يفوت المسيري أن يشير إلى أن مفهوم المسافة- في التصور التوحيدي- يقف على النقيض من الموقف (ما بعد الحداثي) الذي يطرح لحظة حضور كامل و غياب كامل، وكلاهما مستحيل. ومن استحالة الوصول تطرح الصيرورة كحل، باعتبارها الشيء الوحيد الممكن. (اللغة والمجاز 135).
وما يتعلق بالاتجاه (ما بعد الحداثي) ينطبق على كل الاتجاهات الأخرى التي هي نتاج الرؤية المناقضة للرؤية التوحيدية.. طبعا إذا ما تعلقنا بالتفاصيل فسنجد أن هناك فروقا- قد تبدو جوهرية- بين (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) على سبيل المثال، لكن لما ننظر إليها من منطلق الأسس الفلسفية لكل منهما فإننا سنلاحظ أن الفروق التفصيلية تبدو هامشية مقارنة مع اشتراك الاتجاهين في نفس الأسس الفلسفية الميتافيزيقية.
ويذهب المسيري بعيدا عندما يقرر أن إشكالية الدال والمدلول كامنة في الحضارة الغربية حتى قبل ظهور الفلسفة المادية والنسبية المعرفية. ودليله إلى هذا التقرير ال عميق ما لاحظه من اختلاف جوهري بين نقطة البدء الإسلامية ونقطة البدء المسيحية؛ ففي المسيحية واليهودية- يقول المسيري- نجد أن لحظة البدء هي الكلمة نفسها (تجسد اللوجوس)، فالكلمة هي الأساس الأنطولوجي لهذا العالم. أما في الإسلام، فإن لحظة البدء هي اللحظة التي يعلم فيها الإله الأسماء كلها، فلحظة بدء العالم لحظة إبستمولوجية معرفية، وتفترض وجود إله يسبق خلق المادة، إله عالم عليم، ومن خلال المعرفة التي يتلقاها آدم منه يصبح إنسانا، أي انه يتم التواصل بين الإله والإنسان بدون تجسد، أي أن ثمة اتصالا وانفصالا في آية. (اللغة والمجاز 135) والمسيري في هذا الاستنتاج انطلق من الآية الكريمة التي تقول: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء}(31) سورة البقرة
ومرة أخرى نقول بأن العلاقة التي تربط الدال بالمدلول مرتبطة بشكل أساسي بطبيعة الرؤية التي في إطارها يتحرك الباحث.. وبالتالي عندما نعلم بأن الرؤى الكلية لا يمكن أن تخرج عن رؤيتين كليتين أساسيتين، وهما: الرؤية التوحيدية والرؤية المادية الشركية، فإننا لا بد من أن نلاحظ مدى الفرق البنيوي بين طبيعة العلاقة بين الدال والمدلول في سياق الرؤيتين.. معنى ذلك أن إشكالية العلاقة بين الدال والمدلول في الحضارة الغربية ليس خاصا بهذه الحضارة، إنما هو لصيق برؤية كلية تقود إلى تحديد نوع ما من العلاقة بين الدال والمدلول. ووفق هذا التحليل من الممكن جدا أن يطال هذا النمط من العلاقة أي حضارة تتماهى أو تقترب من الرؤية المادية/ الشركية.
يذكر المسيري في بعض كتبه أنه لما تحول الإيمان عنده إلى رؤية شاملة للكون، وإطار للإجابة عن كل التساؤلات، لم يكن لإيمانه بالإسلام أي أساس فكري وفلسفي واضح.. وبدأ يطرح على نفسه جملة من التساؤلات، من قبيل: لم الإسلام وليس أي دين آخر؟ ولم يكن في حوزة المسيري- في البداية- ما يسعفه في الإجابة على مثل هذه التساؤلات، بمعنى لم يكن وراء إيمانه بالإسلام أي سبب واضح! ولم يتخلص المسيري من هذا الفراغ الناتج عن غياب الإجابة، إلا بعد أن طور وتبلورت في ذهنه قضية الحلولية، وضرورة وجود مسافة بين الخالق والمخلوق. ثم يضيف المسيري أن وجد أن الإسلام هو أكثر العقائد ابتعادا عن الحلولية وعن توحد الخالق بمخلوقاته (وحدة الوجود)، أي أن التوحيد في إطار الإسلام- في تصور المسيري- هو أكثر أشكال التوحيد رقيا وتساميا.
وكي لا يفهم من هذا الكلام نوعا من النظرة الاستعلائية والاحتقارية للغير العقدي والفكري، يسارع المسيري إلى القول بأن تقييمه للتوحيد الإسلامي لا يعني رفضا للآخر، إذ يظل مفهوم التدافع مفهوما أساسيا، وهو مفهوم إسلامي يعني الاختلاف بل والصراع، ولكنهما اختلاف وصراع رقيقان، مثل تدافع السيل، حيث تلاطم بعض مياهه بعضا، ولكن هذا التلاطم لا يوقف التدفق بل هو جزء منه. (رحلتي الفكرية 237-238)
إن التوحيد- ومفهوم المسافة وفلسفة التجاوز- يعتبر المعيار الأساسي التي تحكم في مسار الحضارة الإسلامية، وبدون استحضار هذا البعد التوحيدي لا يمكن فهم جملة من القضايا وطائفة من الإشكالات التي ميزت مسار هذه الحضارة عن غيرها من المسارات الحضارية الأخرى.
لقد كان المعيار التوحيدي المحدد الأساس لمقاربة أعقد المسائل الفكرية والأسئلة الفلسفية التي فرضت نفسها بقوة على حضاراتنا ومجتمعاتنا.. وفي هذا السياق يذكرنا المسيري بأن مشكلة - المسافة والتجاوز وعلاقة الدال بالمدلول- تبدت في التراث الإسلامي في مسألة كلام الله.. أهو محدث ومخلوق أم قديم؟
ويذكر المسيري أن المعتزلة عندما قالوا إن القرآن (كلام الله) محدث ومخلوق كان دافعهم إلى ذلك رفضهم لأي شبهة توحي بتعدد القدماء، وتمسكهم بالتوحيد وفكرة الإله المتجاوز للطبيعة والمفارق للعالم.
والسبب المركزي- في رأي المسيري- الذي قاد المعتزلة على الاجتهاد والجد في هذه المسألة كان راجعا بالأساس إلى كوزن هذه القضية بمثابة الباب الذي دخل منه ( التثليث) فأفسد توحيد المسيحية الأولى.
ولتوضيح هذا (الدافع المعتزلي) قام المسيري بتوليد معاني فلسفية تصورية ذات دلالة عميقة، انطلاقا من قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (45)سورة آل عمران، يقول المسيري في هذا الصدد: إن القرآن يقر أن عيسى - عليه السلام- هو كلمة الله.. ثم يضيف: فلو أن (كلمة الله)، وبالتالي (كلامه)- ومنه القرآن- وصف بالقدم لتعدد القدماء ولصحت عقيدة التثليث المسيحية! (اللغة والمجاز 133- 134)
ولنا أن نلاحظ مدى الفرق الكبير بين منزع المعتزلة في مذهبهم القائل ب(خلق القرآن) وبين منزع بعض الاتجاهات الفكرية في عالمنا العربي التي تحاول ما أمكن أن تتبنى وتوظف نفس المسألة لأجل مآرب أخرى تقف على طرف النقيض من المآرب المعتزلية! وتفصيل ذلك أن بعض المفكرين العرب- خاصة بعض الماركسيين منهم- أراد وا أن يجدوا حلا لمعادلة الجمع بين المشروعية التاريخية( أي مشروعية الانتماء لتراث وتاريخ أمتنا العربية والإسلامية) وبين القناعة الإيديولوجية، وكان المخرج- عند هؤلاء- هو تبني مذهب المعتزلة (والمعتزلة تيار فكري يعتز به تاريخنا الإسلامي وتضرب جذوره في عمق تربتنا الحضارية والثقافية) القائل ب(خلق القرآن)، لأنها الدليل، في تصورهم، إلى القول بتاريخية وزمنية النص القرآني، أو بعبارات أخرى أكثر دقة، هي الدليل إلى إيجاد مرجع ديني كلامي للقاعدة الماركسية التي تقول: إن البناء التحتي (الواقع) يفرز البناء الفوقي (الفكر)!! أما المعتزلة فكان مذهبهم على هذا انتصارا قويا لفكرة التوحيد ومنزع التنزيه ومفهوم المسافة وفلسفة التجاوز.
ولتعميق هذه الأمور أكثر، وتبيان مدى حرص كل الفرق الكلامية العقدية في تراثنا الإسلامي على إعطاء مركزية خاصة لقضايا التوحيد، يحكي المسيري مذهب بعض الفرق بخصوص هذه المسألة.. فيذكر، مثلا، أن الأشاعرة ميزوا بين الكلام النفسي- أو الأزلي- و الذي هو معنى قائم بالنفس، والدلالات التي تدل على هذا الكلام النفسي الأزلي القائم بذات الله سبحانه من جهة، وبين الألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء، وما يرتبط بها من حروف وأصوات، من جهة أخرى.. فقالوا بقدم الكلام النفسي (المدلول)، وبحدوث الألفاظ والحروف والأصوات(الدلالات) وخلقها، وقالوا إن المنزل على محمد- صلى الله عليه وسلم-، هو الألفاظ التي هي دلالات على الكلام الأزلي القائم بالذات. فالمنزل محدث ومخلوق، ولم يحدث من جبريل (نقل لذات الكلام).
ثم يستنتج المسيري المقولة التالية: يعني هذا أن الدال والمدلول لا ينفصلان في كلام الله، وأن الانفصال يحدث فقط في حالة تنزيل القرآن. (اللغة والمجاز 134)
إدراك الإله من خلال المجاز القرآني: إشارات ونظرات
ما هو بسيط تستطيع أن تعبر عنه (أو أن ندركه من خلال) اللغة الرياضية البسيطة والصارمة، أما عندما يتعلق الأمر بقضايا مركبة فإن تلك اللغة تقف عاجزة عن فعلي التعبير والإدراك.. ولما كان الوجود الإنساني يتسم بالتركيب، بحكم تلك النفخة من الروح/ القبس الإلهي التي أودعها الله سبحانه في الإنسان، فإن المجاز يعتبر أفضل وأنجع وسيلة لممارسة فعلي التعبير والإدراك..
وفي نظر المسيري يعتبر المجاز- كذلك- وسيلة بني البشر لإدراك الإله؛ إذ إن المجاز يربط بين بعض صفات الإله المتجاوزة للأسماع والأبصار من جهة، وبعض الشواهد المادية التي تدركها الأسماع والأبصار من جهة أخرى، فهو ربط بين المحدود الإنساني واللامحدود الإنساني، كما يقول المسيري.
لكن، ومن منطلق الآية الكريمة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(11)سورة الشورى، فإنه في الإطار التوحيدي لن يدرك الإله في كل جوانبه.. هذا رغم محاولة الإنسان إدراك الإله من خلال المجاز!
ويحاول المسيري أن يوضح أكثر مرد هذا العجز الإنساني عن الإدراك الكامل للإله، مشيرا إلى الأمور التالية:
أولا: إن الإله ليس كامنا أو حالا في الإنسان أو الطبيعة أو التاريخ، أما الإنسان، فرغم مقدرته على التجاوز، إلا أنه يعرف تمام المعرفة أنه يعيش في عالم الطبيعة/ المادة.
ثانيا: مهما بلغ المجاز من تركيب وعمق وجمال، فإن المسافة تظل واسعة، إذ إنه لا يمكنه تشبيهه عز وجل بشيء. وهو لا يتجسد في الأشياء أو يكمن أو يحل فيها، وهو لا يتواصل مع البشر من خلال التجسد والكمون والحلول واختزال المسافات والمساحات والثغرات.
بكلمات أخر، إن الإله هو المركز، أو المدلول المتجاوز، الموجود خارج المادة، ولكنه - والكلام للمسيري- مع هذا يرسل للإنسان رسالة مكتوبة مركبة للغاية، ولأن الإله المطلق هو صاحبها، فإن مضمونها أكثر تركيبا مما يمكن للإنسان أن يحيط به. (اللغة والمجاز 158-159).
وفي هذا السياق قد يقول قائل: أنى لإله يتميز بالصفات السابقة، المفارقة للإنسان والطبيعة، أن يتواصل مع الإنسان! يجيبنا المسيري قائلا: مع كل ما سبق ذكره، ولن الإله يريد التواصل مع الإنسان، فقد أرسل، أي الله سبحانه، رسالته بلغة بشرية مفهومة (لسان عربي مبين) (النحل- 103).
ومن الالتفاتات القرآنية، الجميلة والعميقة في آن، التي يتحفنا بها المسيري أثناء تأصيله وتأسيسه لفلسفة التجاوز ولمفهوم المسافة في الإطار التوحيدي الإسلامي، استخراجه لمجموعة من المعاني والإشارات من الآية القرآنية الكريمة: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (109) سورة الكهف، يقول المسيري: فلو أننا استخدمنا البحر- هذا السائل المادي النسبي، الذي ستكتب به كلمات إنسانية نسبية - للإشارة إلى المدلول الرباني، لعجزت كل الدوال، لأن المدلول الرباني متجاوز لكل ما هو مادي. وقد استخدمت الآية المجاز( لو كان (البحر)) لحل معضلة التواصل. (اللغة والمجاز 159)
ويمضي المسيري قدما في الوقوف عند طائفة من الآيات الكريمة التي تو ظف المجاز من أجل التعبير عن العلاقة المركبة: الاتصال والانفصال والتواصل والتجاوز.
من بين هذه الآيات قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء}(35)سورة النور.
يقول المسيري: إن البنية العامة للمجاز هنا هي تقريب الله من الإنسان، من خلال استخدام عناصر من عالم الإنسان المحسوس يتم الربط بينها وبين الله (الله مثل النور)، وتتم عملية الفصل( وتأكيد التجاوز وعدم الكمون) على نطاق مركب للغاية، تظهر في تكثيف المجاز حتى لا نرى مركزا واضحا، ولا نرى علاقة محددة بين الله والنور، إلى أن نصل إلى الصورة المجازية (نور على نور)، وهي صورة بلا مركزن خاليا تماما من أي كمون أو حلول أو تجسد، تعبر عن المركز المتجاوز.
ويضيف المسيري: وحين نفقد الإحساس بالمركز، فإننا ندرك الإله من خلال المجاز، ولكننا لا نسقط في الإحساس بأنه تمت الإحاطة به تماما من خلال تشبيهه بعناصر أرضية، إذ يظل إحساسنا بتجاوز الله عز وجل للطبيعة والتاريخ إحساسا عميقا، فهو مثل النور، ولكنه ليس بنور.. فليس كمثله شيء. (اللغة والمجاز 159)
وبعد تطوافه حول الآية السابقة، يقدم المسيري فهمه الرائد والمتقدم للدور الذي يلعبه المجاز في تعميقه لقضية التوحيد.. وذلك من خلال إشارته إلى الوظائف المتداخلة/ المختلفة للمجاز اللغوي عموما والمجاز القرآني/ الديني خصوصا، من بينها:
- المجاز يصدر عن إدراك الإنسان لحدوده الأرضية، ولكنه هو أيضا وسيلتنا لتجاوز المسافة التي تفصل بين الدال والمدلول بشكل جزئي( سواء أكان الإله: المدلول المتجاوز، أم الإنسان: المدلول المركب الذي يحوي داخله قبسا إلهيا، والذي يتجاوز واحدية الطبيعة/ المادة)، فالمجاز والتجاوز- والكلام للمسيري- صنوان.
- المجاز يؤكد الصلة بين الأشياء، ولكنه في تأكيده الصلة يؤكد المسافة بينها، ويؤكد وجود عنصرين( لا عنصر واحد) مستقلين متشابهين غير ملتحمين عضويا، لا يفقد الواحد نفسه في الآخر ليظهر كل عضوي جديد.
- المجاز يصدر عن الإيمان بثنائية العالم، فهو- كما يوضح المسيري- صدى للثنائية التكاملية الأولى: ثنائية الخالق والمخلوق. فالمخلوق متميز عن الخالق، ولكن، لأنه يؤمن بالإله الواحد المتجاوز، فإنه لا يفقد الأمل في التواصل معه عز وجل، وهو- أي المجاز- أيضا تعبير عن إمكانية التواصل بين البشر، بكل ما يحملون من أعباء وأفراح وأحزان. (اللغة والمجاز 159-160)
التوحيد في الإطار الإسلامي ومفهوم (النسبية الإسلامية):
يعلق المسيري على قول النحوي القديم: (أموت وفي نفسي شيء من حتى)، قائلا: إن هذا النحوي قضى حياته يبحث عن المعنى الدقيق لهذه الكلمة، وجمع الكثير من المعرفة، ولكنه يعرف أن فوق كل ذي علم عليما.. ولذا فهو يموت وهو يعرف أنه لم يصل إلى الحقيقة المطلقة، ولكنه لم يغص في العدمية، فالاجتهاد مستمر، والنسق مفتوح، يموت الرجل، وهو مطمئن البال، أنه قد اجتهد وأصاب قدرا من المعرفة، وأن الآخرين يستمرون فيجتهدون ويصيبون فيكون لهم أجران، وسواء أصابوا أم أخطئوا، فإن المعرفة تظل بلا نهاية، فالله- كما يعرف الجميع بإنسانيتهم المشتركة- أعلم (اللغة والمجاز 150)
وانطلاقا من هذه الحقائق، طور المسيري مفهوم (النسبية الإسلامية) التي تعني في رأيه الإيمان بأن الله وحده الثابت الذي لا يتحول وما عدا ذلك فمتغير وهو الذي يحيط بكل شيء.
ومرة أخرى يستشهد المسيري بآيات قرآنية تؤسس لمفهوم (النسبية الإسلامية)، كقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(85)سورة الإسراء، وقوله عز وجل: {فوَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}(76)سورة يوسف.. ثم يقول المسيري: أما نحن البشر فلا نعرف إلا جزءا من الحقيقة.
وبالمناسبة فإن (النسبية الإسلامية) التي يدعو إليها المسيري لا تؤدي إلى العدمية، فهي- كما يقول- نسبية داخل إطار ولا تمتد إلى المرجعية النهائية ولا تؤدي إلى تعددية مفرطة في المعاني والمراكز، بحيث يصبح العالم بلا معنى وبلا مركز. (رحلتي الفكرية 238)
ولعل من أبرز تجليات رسوخ مفهوم (النسبية الإسلامية) في تفكير وفكر المسيري، ختمه لجل أعماله الفكرية والفلسفية بقوله: والله أعلم.
عود على بدء:
من خلال المكانة التي يحتلها التوحيد في تفكير وفكر المسيري، كما تبين جليا مما سبق، لا عجب أن يتحول مفهوم الله الرحيم العادل، على أبرز المفاهيم المركزية في تصوره.. يقول المسيري في كلمات بليغة تنم عن فهم متقدم لروح الإسلام وطبيعته التوحيدية: إن الله ليس إله العرب أو المسلمين أو قوم أو عرق دون الأقوام والأعراق الأخرى، بل هو رب العالمين أجمعين يشملهم بعدله ورحمته.
ومثل هذا الإيمان ليس مجرد تصور نظري جاف لا تترتب عنه مقتضيات عملية وممارسات سلوكية، بل - كما يقول المسيري- إن كل هذه العناصر توسع من آفاق إيماننا وتجعل للآخر مكانا في عالمنا برغم إيماننا بالإسلام أو ربما بسببه. إذ إن الإسلام من أكثر العقائد تسامحا وقبولا للآخر، برغم أنه يحدد الحدود ويضع الفواصل. (رحلتي الفكرية 238)
ونقول ? أيضا - إن ما يقدمه المسيري من آراء وتصورات بخصوص مسألة التوحيد يعتبر توجها رائدا في عرض العقيدة في عالمنا المعاصر.. فما يطرحه المسيري من فهم لجوهر الإسلام - المتمثل في التوحيد - يصلح ليكون بمثابة مقدمات هادية لإعادة المعنى للحياة، هذا المعنى الذي يقدمه التوحيد، في عالم فقد المعنى.
إن الدرس الذي يقدمه لنا المسيري- هنا - يتلخص في كون أن نظرتنا للتوحيد( كرؤية وفلسفة للحياة) يجب أن تأخذ بعين الاعتبار ما يعرفه العالم من تحديات يفرضها النموذج الآخر المقابل للنموذج التوحيدي. بمعنى أن نحتفظ على أصول العقيدة، أما عرض هذه الأصول فيجب أن تأخذ بعين الاعتبار ما يعرفه النموذج الآخر من تجليات جديدة.
بعبارة أخرى، ومن خلال ما ذكره المسيري بخصوص المركزية التي ينبغي أن يحتلها التوحيد (أو الرؤية التوحيدية) في حياة الإنسان، نفهم جيدا الدوافع القرآنية للتركيز على التوحيد الذي يمثل جوهر العقيدة والذي تعتبره النصوص الدينية/ الإسلامية المحدد الرئيس والقاسم المشترك الذي يجب أن يكون بين كل المختلفين في العقيدة والفكر والنظر.. فالتوحيد هو الذي بمكننته أن يقلص من الآثار السلبية التي قد يسببها هذا الاختلاف، لذلك دعا القرآن العزيز أهل الكتاب كافة إلى الكلمة السواء ممثلة في عبادة الله وحده (التوحيد).
ونستطيع أن نقرر - دون تردد - أن الرؤية التوحيدية قادرة على استيعاب كل الدوائر البشرية المختلفة، وذلك بربط الناس - كل الناس - بإله واحد، وتوجيههم الوجهة الصحيحة؛ وما الأزمة التي يعيشها العالم المعاصر، والفوضى الكبرى التي تطال كل مناحي الحياة المعاصرة، إلا وجه بارز من أوجه غياب -وتغييب- التوحيد والرؤية التوحيدية في حياة الأمم والشعوب. وما ذلك إلا لأن هذه الرؤية التوحيدية هي التي تسأل وتجيب على الغايات والنهايات Les finalites، وهي بدورها التي تحدد معنى لحياة الإنسان.