لماذا لم يظهر بيننا نحن العرب فيلسوف معاصر؟ وهل كتب علينا أن يظل مفكرونا مجرد نقلة أو شارحين على متون الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة؟ ولماذا لا يتجرأ مفكرونا على التفلسف المباشر إزاء مشكلات حياتنا العربية وظواهرها العديدة التي أصبحت تصدمنا وتفاجئنا كل يوم بجديد؟ لماذا يفضلون مواجهتها من وراء حجب كثيفة من النظريات والمناهج والمفاهيم الغربية (والغريبة) عن واقع ثقافتنا وخبراتنا الاجتماعية والحضارية الخاصة؟
أسئلة عديدة لا يمل الناقد للفكر العربي المعاصر من تكرارها، وهي أسئلة مناسبة تماما كمدخل لمحاولة تحديد القيمة الحقيقية لمفكرنا العربي الدكتور عبدالوهاب المسيري، الذي توهج فكره وحقق درجة غير مسبوقة من الذيوع والانتشار خلال العقد الأخير بين قاعدة واسعة من المثقفين والقراء العرب تجاوزت المعايير المتعارف عليها بالنسبة لمفكرينا الكبار خاصة ذوي الأفكار الفلسفية والنظرية التي عادة ما تستعصي على القارئ العادي وعلى المثقف أيضاً في الكثير من الأحيان.
من منظور التقييم التاريخي، يمكن القول إن المسيري قد وصل بحركة تحرر الفكر العربي المعاصر من سطوة الفكر الغربي عليه إلى ذروتها بعد عقود من الانبهار بالإنجاز الحضاري والتنظيمي والفكري للحضارة الغربية الحديثة ؛ فعلى الرغم من صعود مفهوم الاستقلال السياسي عن الاستعمار الغربي مع ظهور حركات التحرر الوطني والقومي في عالمنا العربي مع منتصف القرن الماضي إلا أن التبعية الفكرية ظلت حاضرة لدى الاشتراكيين أو الليبراليين سواء بسواء، كما ظلت التبعية حاضرة أيضاً في أنماط الحياة الاجتماعية التي طبعت المدينة العربية بالطموح نحو نموذج المدينة والحياة الأوربيين.
وعلى المستوى الفكري ظلت النظريات والمناهج الغربية هي المنهل الوحيد لمفكرينا طوال عقود عديدة، وكأنه لا توجد في العالم كله سوى حضارة واحدة هي الحضارة الغربية دون غيرها وفي هذا المناخ بدت أمتنا العربية كصفحة بيضاء ينبغي تسويدها بمداد الغرب وحده.
وإلى جانب حالة المد الديني التي عمت المنطقة بعد نكسة يونيو 1967م والتي عبرت عن الرغبة في التمسك بآخر معاقل الهوية، وبعيداً عن نزعات الرفض المطلق لكل ما هو غربي، بدأت إرهاصات نوع جديد من الفكر العربي المستوعب للإنجاز العلمي الغربي ولكن الناقد له في ذات الوقت، وربما يمكن القول بأن هذا التيار الجديد قد بدأ مع نهاية السبعينيات من القرن الماضي وتجسد إنجاز في مفكرين جدد لهم قدم راسخة في الفكر الغربي الحديث وقدم أخرى في خصوصية التراث العربي الإسلامي، ونجحوا بالفعل في كسر تلك الازدواجية القديمة التي قسمت النخبة العربية بين إسلاميين تقليديين منقطعين عن أصول الحضارة الحديثة، ورجال ثقافة من حملة الفكر الغربي المنقطعين بدورهم عن خصوصية تراثهم الحضاري بشكل كامل.
تدريجياً تجسدت هذه الحركة الفكرية الناهضة تحت شعارات فكرية متعددة من قبيل (نحو علم اجتماع عربي) أو (أسلمة المعرفة) (الغربية)... الخ، ويمكن القول إن الدكتور عبدالوهاب المسيري كان دائماً في القلب من هذه الحركة الفكرية الجديدة الخلاقة، بل كان الفارس المبرز فيها، والعنصر المحفز لأفكار أعضائها بجرأته الاستثنائية في رفض طريق الفهم والتحليل الغربية التي فشلت المرة تلو الأخرى في تشخيص مشكلات واقعنا وظواهره، كما امتلك الشجاعة الفكرية على تكثيف خبراته المعرفية والفكرية التي تراكمت عبر سنوات من أجل صياغة أطر تفسيرية ومنهجيات جديدة وتطبيقها لفهم العديد من الظواهر الاجتماعية العربية وغير العربية، كان أشهرها وربما ليس أهمها منهجيته الجديدة في دراسة الظاهرة الصهيونية التي كشف خلالها كيف أن اليهود في أنحاء العالم كانوا بمثابة جماعات وظيفية كان لكل منها خصوصياتها التاريخية والثقافية والاجتماعية داخل المجتمعات التي عاشوا فيها وأنهم لم يكونوا أبداً جماعة واحدة متحدة الهوية كما يصر قادة الحركة الصهيونية على تصويرهم.
عبر سنوات طويلة من التأمل والحوار مع رفاق تلك الحركة الفكرية الواسعة، تراكمت لدى المسيري خبرات مكنته بشكل استثنائي من صياغة شبكة من المفاهيم التي شكلت معاً أطراً تفسيرية جديدة قادرة على فهم الحضارة الغربية الحديثة ذاتها باعتبارها أبرز منجز حضاري معاصر ولكن بشكل نقدي، وهو ما كان يمثل المرحلة التمهيدية الضرورية لأي إبداع فكري عربي ذاتي مستقل.
تمكن المسيري عبر هذا الإطار التفسيري الجديد من توجيه أهم نقد معرفي وليس سياسياً فقط لما كان يسمى (بالعلم الغربي) بحيث رده إلى حدوده الطبيعية باعتباره وليد خصوصية ومحدودية خبرة أوربا، التي هي مجرد شبه جزيرة صغيرة في الطرف الشمالي الغربي لقارة آسيا العريقة بتعبير المفكر الفرنسي روجيه جارودي الأستاذ الأوربي في ذات المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها المسيري، وبالتالي لم يعد العلم الغربي هو (العلم) بألف ولام التعريف، فالحضارات الأخرى في العالم خاصة الكبيرة منها كالحضارة العربية والإسلامية والحضارتين الصينية والهندية... الخ لها أيضاً خبراتها الخاصة ومنظوماتها الفكرية والعقائدية القادرة على توليد رؤاها الخاصة في كافة العلوم الطبيعية والإنسانية.
وترتب على ذلك أن المفاهيم الأساسية التي قامت عليها الخبرة الغربية الحديثة والمعاصرة كالحداثة والتطور والتقدم.. لم يعد ينظر إليها باعتبارها نماذج مثالية مطلقة ينبغي على كافة الحضارات والمجتمعات احتذاءها وتكرارها، بل أن مثل هذه المفاهيم تتضمن في جزء منها ما يعرف بالمشترك الإنساني العالمي، كما تتضمن أيضاً جزءاً يعبر عن الخصوصية الحضارية لكل مجتمع، وبالتالي فهناك حداثات عديدة ممكنة لا حداثة واحدة أو لنقل أنماطاً عديدة للحداثة وطرقاً متباينة للتطور والتقدم.
ويلفت النظر في هذا الإنجاز للمسيري ومدرسته الفكرية وبحكم كونه إنجازاً معرفياً أنه لم يكن مجرد موقف سياسي أيديولوجي معاد ومناهض للغرب برمته ولفكره على وجه التعميم، بل كان نقداً أكثر منه نقضاً للأسس المعرفية التي قامت عليها منظومة القيم الأساسية لحضارة الغرب، كما كان نقداً مسئولاً مستوعباً لكل ما هو إيجابي إنساني في مسار هذه التجربة الحضارية القريبة منا والمؤثرة فينا، مع توجه صارم لهضم هذه القيم الإيجابية وإعادة صياغتها وتمثلها بحيث يصبح دمجها في منظومة قيمنا ورؤيتنا الكلية للوجود أمراً طبيعياً لا مقحماً ولا هادماً للأسس التي تميز حضارتنا العربية الإسلامية. أما القيمة الثانية لعبد الوهاب المسيري في نظرنا، فتتمثل في تمسكه بدوره كمثقف عضوي ملتزم بإحداث تأثير ملموس في وعي مجتمعه، وهو ما تجسد في وجود أكثر من مستوى للكتابة عنده، المستوى الأول هو مستوى الكتابة الفلسفية والنظرية المجردة عالية المستوى وهو المستوى الموجه للنخبة من المفكرين والمثقفين المتخصصين أما المستوى الثاني فتمثله مجموعة كبيرة من المقالات والأحاديث الصحفية والتليفزيونية ذات المستوى الوسيط والتي يستهدف فيها المسيري الجمهور العادي من القراء والمستمعين والمشاهدين، ولعل ما يلفت النظر حقاً هو أن التبسيط عند المسيري إنما يتعلق باللغة وطريقة التناول دون أدنى تنازل عن طرح كافة المفاهيم الفلسفية والتحليلية التي تمثل جوهر الإطار التفسيري الذي يحرص على أن يصل لأكبر قطاع من القراء.. فكيف تمكن من حل هذه المعضلة أو المفارقة بين ضرورة تبسيط اللغة مع صعوبة وتعقيد المفاهيم؟!!
ينتهج المسيري هنا مدخلاً مشابهاً لما نجده عن فيلسوف الحياة اليومية الإنجليزي جورج إدوارد مور، إذ يبدأ دائماً من التقاط حدث أو واقعة أو مشهد ثم يبدأ مع القارئ رحلة تحليله وفهمه تفسيره من خلال ربطه بالإطار التفسيري وشبكة المفاهيم الأساسية الخاصة به. ولكن أحداث ووقائع ومشاهد الحياة اليومية لا تتساوى في قيمتها وقدرتها التفسيرية عند المسيري، ولكن بعضاً منها يملك هذه الخاصة الفريدة، وهي ما يطلق عليه (المواقف النماذجية) أي التي يكشف تحليلها عن منطق النموذج الحاكم للحياة في إطار سياق اجتماعي وحضاري معين سواء كانت الحضارة الغربية أو العربية الإسلامية أو غيرها، وتعبر المقدرة على التقاط هذه المواقف التي تبدو للآخرين كمواقف عادية لا دلالة ولا مغزى لها عن أحد جوانب تفرد المسيري وعبقريته.
ولنوضح للقارئ هذه المنهجية المبتكرة في التحليل، نشير إلى العديد من مقالات المسيري، كالتي يحاول أن يفسر للقارئ فيها بعض الأسس المعرفية التي يقوم عليها نموذج الحضارة الغربية الاستهلاكية على سبيل المثال، فلا يدخل إلى مثل هذا الموضوع الفلسفي الجاف والمعقد مباشرة بل يبدأ مثلاً بذلك الموقف الذي صادفه خلال زيارته لموسكو قبيل البيروسترويكا، حين لاحظ تجمهر الناس حول فتاة عادية لمجرد أنها كانت ترتدي في واقعة استثنائية آنذاك بنطلون جينز أزرق أمريكي أصلي، وهى اللحظة التي كشفت له عن مدى انبهار شعوب أوربا الشرقية بفكرة (الحلم الرأسمالي الاستهلاكي)، ثم ينطلق المسيري في التحليل الثقافي (للجينز) باعتباره منتجاً عملياً (محايداً ثقافياً) إذ يفتقر إلى أي رموز ثقافية تخص شعباً بعينه على خلاف الساري الهندي أو الكومينو الياباني أو الجلبات العربي أو المغربي مثلاً ولذلك فإن الجينز يصلح لكل الشعوب.. ولكن بشرط أن ينسوا تاريخهم وخصوصيتهم الثقافية تدريجياً، ولا ينسى المسيري أن يلفت نظر القارئ كيف أن الشركات المنتجة لهذا البنطلون المتطابق الشكل دون أدنى فارق يذكر بين واحد آخر، تحرص أشد الحرص على إبراز اختلاف ظاهري واحد هو ماركة البنطلون التي تحدد وحدها السعر رغم تساوي النوعية في معظم الأحيان كما تحدد في ذات الوقت المكانة الاجتماعية للشخص، فالشركات عن طريق هذا الرمز أوالماركة تبيع للناس المكانة في التراتب الاجتماعي قبل أن تبيع السلعة ذاتها.
وفي مقال آخر يتساءل المسيري كيف أصبح الإنسان يتقبل فكرة أن يتحول (وهو الإنسان ذومة الكرامة) إلى مجرد سطح أو لافتة متحركة تعرض إعلاناً كبيراً ظاهراً على (التي شيرت) الذي يلبسه.. لم يكن من المتصور أن يقبل الناس بذلك إلا بعد مرحلة تاريخية طويلة فقدوا خلالها عادة النظر لذواتهم كجوهر إنساني له تاريخ وثقافة ومنظومة قيم وهوية وكرامة.. وهو ما يفسر لنا لماذا يعتبر كبار السن ارتداءهم لمثل هذه الملابس ضرباً من ضروب المستحيل.
ولكن المسيري لم يكتف بذلك المستوى الوسيط للكتابة، بل انطلق خلال السنوات الأخيرة نحو مستوى ثالث أكثر صعوبة وهو ما يتمثل في إبداع عدد من المجموعات القصصية للأطفال والنشء.
وفي دراسة سابقة لكاتب هذه السطور لاحظ وجود حالة من التوازي بين العديد من المفاهيم المعرفية والفلسفية الواردة في الجزء الأول النظري من موسوعة المسيري وبين الأفكار الواردة في قصصه للأطفال، حيث تمت صياغة هذه المفاهيم في صورة حكايات يصل مغزاها للطفل ويدعم لديه مفهوماً أو قيمة معينة مثل مفهوم الإنسان الحقيقي الذي لا يقبل أن يصبح مجرد متلق سلبي لما حوله من وقائع ومعلومات بل يعمل على ربطها معاً وصولاً إلى (البحث عن المعنى) الكلي للوجود وهو ما لا يتحقق للإنسان إلا بربط ما هو دنيوي جزئي بما هو سماوي إلهي، وعلى عكس النصيحة التقليدية التي كان جيلنا يقرأها: (نم مبكراً واستيقظ مبكراً) فإن من يعانون الشغف الليلي في حكايات المسيري هم أطفال إيجابيون مبدعون خلاقون، إنهم بشر بالمعنى الحقيقي للكلمة يجسدون الجوهر الحقيقي للمشروع الفكري لعبدالوهاب المسيري الذي قد يجسده هذا الجيل الجديد يوماً ما.
* خبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية القاهرة
F_elsaeed@hotmail.com