عندما نتأمل سعي د. عبد الوهاب المسيري الثقافي نرى وضوح تجسيده العملي لمضمون الآية الكريمة {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين} (19) سورة النمل
يعمل الدكتور المسيري بما يعلم فيزيده الله علما بما لا يعلم. في مسعى الدكتور المسيري ثبات على المبدأ وتنوع في الأساليب، فهو يكتب في السياسة والنقد الأدبي وينظم الشعر ويروي الحكايا للأطفال.. وقد أخذ على عاتقه أن يكون أحد معلمي الأمة مخاطبا كل فئاتها. قد يكمن سر عالم عبدالوهاب المسيري الثري في (أغنية الوصول والوصل والوصال) عندما يحلم بالرسول (ص) يوصيه: (ابن آدم.. في مركز العالم فلتقف ثابتا، لا تتزحزح، فقد استخلفك الله في الأرض). هكذا نرى مبدأ المسيري الرئيس أن يقف ثابتا، فقد حمله الله أمانة وعليه أن يؤديها لكي يعمل صالحا يرضاه.
لا يختلف فكر المسيري في سيرته الشعرية عن فكره في رحلته الفكرية في البذور والجذور والثمار؛ فهو دائما يؤكد فعلا لا قولا أنه حالة من الحالات المتفردة في عالم الأكاديميا بالوطن العربي، ترى في نموذجه وجها آخر للعلم يزيدك قربى من المعرفة لا نفورا منها، فهو مفكر، باحث، صياد، أستاذ، تلميذ، محب للحياة وللتجربة الإنسانية، يترجم هذا الحب في صيغة تواصله مع الشباب والأجيال الجديدة الذين يدهشهم بحماسه للمعرفة. ولأنه محاضر ودود، عملي، خفيف الظل، موسوعي المعرفة، كاريزمي يرى الفكر والمعرفة قضية حياتية وحتمية فهو يتمتع بحضور قوي، ويؤمن بدوره المتفاعل مع المجتمع، مواطن مثالي يرفض التهميش؛ لأن في تهميشه تهميشا لمعرفته وفكره اللذين هما أثمن ما يمكن أن يقدمه للشباب في الوطن العربي في هذا الزمان. يأبى أن يلوح في وجه جمهوره بشهادات علمية أو جوائز أو أي تقدير ناله، لكنه (يأخذها من قصيرها) ويجعل بابه لمستمعه هو (العلم اللذيذ) الذي تقبل عليه ولا تنفر منه فتجدك بعد أن كنت من الحضور أصبحت من المريدين، ولم لا وهو الذي كرس حياته لتعلم العلم وتعليمه.
يهدف د. عبدالوهاب المسيري من هذه الرحلة ? السيرة غير الذاتية غير الموضوعية - إلى تكريم الانسان ? الذي يؤمن به - وتحليل مظاهر تفرده، وهو أيضا حريص على أن يعرض للقارئ أدواته التحليلية التي تساعده على اصطياد هؤلاء الذئاب الملونة المتحولة. عبر سرد غير نمطي يؤرخ د. عبدالوهاب المسيري لتحولاته وتطوراته من الفردي إلى الجماعي ومن الخاص إلى العام. تتميز رحلة عبدالوهاب المسيري الفكرية بأنها ليست رحلة بسيطة في تركيبها تبدأ بركوبه السفينة من ميناء الإسكندرية وتنتهي بجلوسه أمام مشربيته الحديثة التي قام بتصميمها في منزله بمصر الجديدة، بل هي عرض شامل لمشروعه المعرفي المتكامل تشكل مجموعات من الدوائر المتلاحقة حول الأحداث التي لا يهم فيها (ماذا) حدث بقدر ما يهم (كيف) حدث وكيف يوظفه عبدالوهاب المسيري في مشروعه المعرفي ليمكنه من الخروج من (غابة داروينية ملأى بالذئاب التي تلبس ثياب القط والفأر). (المسيري رحلتي الفكرية 441).
وعندما نحدد (مجتمع قراء) عبدالوهاب المسيري فنحن لا نعني وادي النيل وإنما نضاعف من قطر دائرته المعرفية ليشمل الشباب المتعطش للمعرفة من المحيط إلى الخليج. نستشف من فكر د. المسيري أنه لا يعيش اللحظة كمواطن عادي بل هو محلل لسياق نسيجه تتابع اللحظات في العالمين العربي والغربي، فهو قارئ جيد للتاريخ، يحاول أن يفك شفرة التراث ليربطه بأوجه الحياة المختلفة؛ لذلك تستند تجربته المعرفية إلى ثلاث خطوات متتالية: التأمل والتفاعل والإنتماء، فهو عندما ينتقل بنا من معلومة إلى طرفة ومن رأي إلى سرد، نتجول معه ونطوف مسلّمين له القياد في أتون أشمل من المحاضرة ينطوي على عملية فكرية دقيقة ومنظمة وليست رحلة خيالية لا هدف من ورائها سوى الترفيه. وبالتالي فالإنصات إلى فكر د. المسيري في أي من محاضراته أو ندواته أو جلساته الخاصة يدرب المستمع على آلية الرصد والترتيب والتحليل والتفسير مما يحفزه (المتلقي) إلى إعمال عقله والمشاركة الإيجابية في المحاضرة التي تتحول بدورها إلى حوار مثمر بين الأستاذ وتلاميذه تسقط فيه الحواجز ليصبح حوارا بين الأب وأبنائه وبناته.
بصبر ودأب وتواضع يخصص الدكتور المسيري الساعات الثمينة للرد على أسئلة الشباب لأنه ببساطة يعمل في مجال فكري يستثمر فيه رصيده المعرفي في الرهان على الشباب وعلى المستقبل. لذلك يحرص د. المسيري على التواصل بمفهومه العام فلا يبخل على المواطن العربي بإطلالاته الفكرية الثرية في الندوات واللقاءات الصحفية والمحاضرات والمؤلفات والمقالات، من خلال منابر متعددة من كتب وصحف ومجلات عربية ومصرية وقنوات فضائية وشبكة الإنترنت وحتي صالون منزله ليجعل علمه وفكره متاحين للشباب على اختلاف تخصصاتهم.
مع تنوع المنابر والقنوات تتعدد كذلك إضاءاته الفكرية في مناحٍ مختلفة ليناقش قضايا عديدة متنوعة مثل الصهيونية والارهاب والعولمة والعلمنة وعلم النكات والاحتفال بالألفية ونهاية التاريخ والسوبرماركت والكريسماس والفيديو كليب والهامبرجر وفلسفة ما بعد الحداثة وكوميديا السياسة المعاصرة وفوازير رمضان ونظرية الرقص الأفقي، والقلب الكاروهات والفارق بين (كدهه) لسعاد حسني و(كده) لروبي وعلاقتهما بدور المرأة المتأرجح بين الفاعل والمفعول به.
باختصار د. المسيري (جراح ثقافي) محنك لا يستنكف أن يُعمل مبضعه في أي جسد يعبر عن نموذج وبالتالي فهو يراه قابلا للتدخل الجراحي. وهو لا يقترب من هذا الجسد - المنتج الحضاري - بدافع المزاح أو التعالي بل يحلله بجدية واضحة لا يمنع عمقها الأكاديمي أن تتخللها خفة ظل مصرية صميمة، ويشترك معه في خصائص هذا الدور الذي يلعبه الآن ومنذ سنوات مفكر غربي ينتمي مثله لروح ثقافة البحر الأبيض المتوسط لكنه يمثل العالم الغربي وهو المؤلف والناقد الأكاديمي الإيطالي أومبرتو إكو الذي يرى ? هو أيضا - كل منتج حضاري مادة قيمة قابلة للتحليل والتمحيص، لذلك مثلما يتعرض المسيري للأفلام والفيديو كليب والعادات الغذائية والاجتماعية يكتب إكو عن كل المظاهر الثقافية في عالمه بما فيها من مغامرات جيمس بوند وقصص سوبرمان المسلسلة وروايات يوجين سو الشعبية، وهما بذلك ? المسيري وإكو - ناقدان متوازيان، ظهرا تقريبا في نفس الفترة الزمنية ووهبا علمهما لحضارتيهما في نصفي الكرة الأرضية. وبتحليل مسيرتيهما نجد التوافق بين مشروعي المسيري وإكو مدهشا. بدأ المفكران بداية أكاديمية ثم عملا على تغيير مفهوم الأستاذ الجامعي في مجتمعيهما، خرجا من أسطورة البرج العاجي الذي يعتزل فيه العالِم العالَم متوهما أن وقار العلم وجلاله في انفصاله عن المجتمع وتعاليه عما يمثله لا محاولته معالجته، ورصدا ? المفكران - بدراساتهما العناصر الفاعلة المشتركة بين ثقافة النخبة وثقافة العامة high culture/pop culture ومن ثم اتجها للدراسات الحضارية بفروعها الأدبية والنقدية والاجتماعية والشعبية وغيرها، بل واتجها إلى الكتابة للأطفال والكتابة الإبداعية، وأخيرا نشهد لهما بريادتهما في كتابة دراسات تهدف إلى وحدة الحوار الثقافي العالمي وترسيخ احترام فكر الآخر قبل هرولة الكُتاب فيما بعد الحادي عشر من سبتمبر إلى ما يطلق عليه حوار الحضارات وصدامها والعولمة وغيرها من الصرعات الفكرية الزائفة.
لأن المؤرخ لا يمكن أن يدير ظهره للتاريخ يصطحبنا المفكر الدكتور عبدالوهاب المسيري معه في رحلته الفكرية من الماضي إلى المستقبل عبر الحاضر. يلتقي الدكتور عبدالوهاب المسيري في رحلته الفكرية بثلاثة ذئاب رئيسة وهي ذئب الثروة وذئب الشهرة والذئب الهيجلي المعلوماتي، ولكنها ذئاب تقود قطيعا من الذئاب المقنعة الماكرة التي ينبهنا المسيري إلى وجودها المتنامي في حياتنا، فهي تطل من شاشات التليفزيون وتطير في الهواء وتطرق أبوابنا حاملة باقات الزهور السامة، فما أن نفتح لها الباب حتي تلتهمنا ثم تنام في أسرتنا مرتدية قمصان نومنا ونظاراتنا الطبية ومقلدة أصواتنا لتلتهم أحفادنا فور أن يلقوا بأنفسهم في أحضانها.
يرى د. المسيري أن منتجات الحضارة تمثل مفردات (لغة حضارية كاملة) تتفق وفلسفته الخاصة بأن (كل الأمور مترابطة) ومن هنا ينطلق نحو قاعدة عريضة من الجمهور والقراء يشركهم في خطته كمفكر، تلك التي تهدف إلى الإعلاء من قيمة الجوهر الانساني ونشر روح الدين الحق والترويج للدور الايجابي للأخلاق والمعرفة. على غرار الأسطورة المعاصرة لرولان بارت يكشف لنا عبدالوهاب المسيري بثبات عن نسجيته المتقنة التي يصور فيها رحلته إلى المعاني الكامنة في مفردات عالمه المعاصر وكأنه غابة سحرية مثل الحكايا الخيالية تتجاور وتتعايش وتتعارك فيها الجنيات مع الأقزام والأرانب والحملان والذئاب تماما مثلما ينتقل بنا المسيري من فن العمارة إلى براعم المشمش البيضاء والتدوير وهدايا عيد الميلاد والأفراح وألعاب الأطفال وفن النكتة وقواعد المرور وأصول المساومة والموت والأطباء والمرض والزواج وبابا نويل وغيرها من عناصر عالمه التي يحللها لنا لكي نرسم ملامح شخصية مصر والمواطن المصري في مواجهة عالم متهرئ يتحدى الثوابت ويحطمها.
لذلك فالدكتور المسيري يود ألا يرى العالم غابة كتلك التي التقى فيها في الماضي بذئب الثروة وذئب الشهرة وذئب المعرفة، وإنما واحة للتلاقي المعرفي والانساني. ومن ثم يبتعد المسيري عن المهرولين الطامعين في مآرب دنيوية شتى، لينصب اهتمامه على مشروعه الخاص وهو (المقاومة بالثقافة)، والخروج لصيد هؤلاء الذئاب المقنعة بسلاح الثقافة المتكاملة التي تنصبه ? المسيري - مرجعية معرفية للشباب المتعطش للعلم وللمعرفة.
أما الذئاب الجديدة التي يحذرنا منها المفكر العربي عبدالوهاب المسيري، بل ويدعونا مرارا للخروج لصيدها معه فهي ليست ذئابا عادية مثل تلك التي تعيش بالغابات أو تسكن الحكايات ذات رؤوس ضخمة وأنياب حادة وآذان كبيرة لا تخطئها عين، بل هي ذئاب ماهرة في اتقان لعبة التمدين الزائفة، تتفوق على ذئب ذات الرداء الأحمر المتنكر الذي رقد في سرير جدتها وارتدى نظارتها الطبية وغطاء شعرها وقميص نومها، وبالرغم من تنكره هزم في الحدوتة ومثل به وأصبح أضحوكة وعبرة لكل ذئاب الحكاية. الذئاب الآن تكاد تكون آدمية الملامح، تخفي وراء أقنعتها ابتسامة الأنياب الحادة وداخل قفازاتها المخملية مخالب كالنصال. هي ذئاب أنيقة، تتعطر وتتجمل، تصبغ فراءها وترتدي عدسات ملونة وتتحول في مسوحها وترطن بألف لسان وتتقن فن الإتيكيت وترى في صورتها الجديدة new look نوعا من المهارة والإلمام بفن العلاقات المعاصرة.
يزداد هذا القطيع من الذئاب الشرسة اقترابا منا، وراء كل شجرة يتخفى ذئب ينتظر إشارة الهجوم علينا نحن الفرائس، نلمح بينها متربصا بنا ذئب تنميط العالم، وذئب تجريد الحياة من مضمونها الديني، وذئب تحويل الانسان إلى بروتين محض (جسده لا روحه هو مركز عالمه). لا ينتهي هذا القطيع من الذئاب بل هو في تكاثر متنام.. فهناك أيضا ذئب بداية المتعة الذي يمشي بحذاء ذئب نهاية التاريخ، وذئب سقوط المرجعيات وذئب الاستهانة بالمخزون الحضاري لأي أمة وذئب تدنيس وتمييع الهوية وذئب الاستهلاكية الوثنية وذئب الهرولة وغيرها من أفراد القطيع الذي لا ينتهي... ورغم كل هذا فعلى ساق كل شجرة كبيرة يعلق لنا د. المسيري لافتة (احذر: أمامك ذئب في الطريق)، بل ويهب كلاً منا حصته من السلاح والذخيرة (المعرفة) ثم يتقدم صفوفنا.
من هنا نقرأ نموذج د. عبدالوهاب المسيري المعرفي كمفكر عربي مسلم يحمل قلبا (لا يسأم الطيران والتحليق) يسعى ويحفزنا معه إلى التشبث بالوعي من أجل تغيير مصير الأمة. د. عبدالوهاب المسيري هو المؤول للنصوص الأدبية والتاريخية الذي يتجاوزها إلى النص الأكبر.. العالم، لذلك مع كل ما تقدم لنا من علمه وعمله وبالتحديد ما يمثل (البذور والجذور والثمار) نستطيع أن نقول: هذا الفارس العربي يستحق منا كل احترام وتقدير.
* أستاذ الأدب الإنجليزي
رئيس قسم اللغة الإنجليزية
كلية الألسن - جامعة عين شمس