مما لا شك فيه أن الدكتور عبد الوهاب المسيري ترك تأثيراً إيجابياً في فكري منذ أن تعرفت على أعماله الفكرية لأول مرة عبر كتاب (الإيديولوجيا الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة) الصادر عام 1980 عن سلسلة علم المعرفة الكويتية.
لقد بهرني ذلك الكتاب بعمق مادته، وما تضمنه من مقدرة تحليلية رائعة مقارنة بالكتب التي سبق أن قرأتها عن نفس الموضوع.
ومنذ ذلك الحين، بدأت في تتبع جميع أعمال الدكتور المسيري من مقالات وحوارات وكتب ومحاضرات.
وقد كنت محظوظاً جداً عندما تعرفت على الدكتور المسيري شخصياً لأول مرة عام 2000 في معرض القاهرة للكتاب.
ثم تواصلت اللقاءات حيث صرت أحرص على لقائه كلما زرت القاهرة خاصة في يناير عندما يقام معرض الكتاب.
كما تشرفت بزيارته في منزله ذي اللمسات الفنية الجميلة، وبهرني المسيري ببساطته الشديدة، وتواضعه الجم، وكرمه الرائع، وروحه المرحة.
وأذكر أنني سألته مرة عن طبيعة مرضه فأجاب بتلقائية (شارون وما يفعله بالفلسطينيين!).
وصرت أحرص عندما أكون في القاهرة على حضور صالونه الشهري الذي يعقد في يوم الثلاثاء الثالث من كل شهر في مقر جمعية مصر للثقافة والحوار.
وفي هذه المقالة أود أن أركز على التحول الذي تركه الدكتور المسيري عليّ كقارئ ومتابع لأعماله، وذلك عبر دحضه لنظرية (المؤامرة اليهودية).
حيث سأقوم بقراءة جزئية سريعة لكتابه (اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية) الصادر عام 1998 عن دار الشروق المصرية.
قدم المسيري دراسة غير مسبوقة عربياً عن ما يسميه (الفكر البروتوكولي التآمري) لدى العرب حيث تُنسب إلى اليهود قوى عجائبية خارقة ويد عليا خفية في كل مكان وزمان تقريباً.
ويرى هذا التفكير البروتوكولي التآمري أن اليهود وراء الكثير من الخطط الجهنمية والجمعيات السرية والحركات الهدامة في العالم كما جاء في (بروتوكولات حكماء صهيون) وهو أشهر المواضيع التآمرية على الإطلاق.
ويعتقد المسيري أن هيمنة هذا الفكر التآمري على العقل العربي هو من أخطر الأمور.
فهو يزيد من هيبة إسرائيل ويجعلها تكسب الحروب سيكولوجياً بدون أن تدخل معارك حقيقية.
أكد المعلق السياسي الإسرائيلي يوئيل ماركوس في جريدة هاآرتس الإسرائيلية، في 31 ديسمبر 1993م، أن كثيراً من الدول تغازل إسرائيل وتحاول أن تكسب ودها نظراً لأن حكام هذه الدول يؤمنون - بصدق- بأن البروتوكولات وثيقة صحيحة، وأن ما جاء فيها هو المخطط الذي يتحقق في هذا العصر والذي سيؤدي إلى سيطرة اليهود على العالم، وأن اليهود يتحكمون بالفعل في رأس المال العالمي وفي حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن ثم - يقول ماركوس- فالطريق إلى المعونة الأمريكية يمر من خلال اللوبي الصهيوني والدولة الصهيونية.
ويؤكد ماركوس معلقاً على هذه المفارقة: (إن البروتوكولات تبدو كأن الذي كتبها لم يكن شخصاً معادياً لليهود، وإنما يهودي ذكي يتسم ببعد
النظر) وذلك بسبب أثرها الذي يولد الرهبة في النفوس ويدفع البشر لمغازلة إسرائيل خاصةً واليهود عامةً.
وكلمة (بروتوكول) مصطلح إنجليزية تعني (اتفاقية).
وبروتوكولات حكماء صهيون وثيقة يقال إنها كتبت عام 1897 في بازل بسويسرا، أي نفس العام الذي عُقد فيه المؤتمر الصهيوني الأول.
بل ويزعم البعض أن تيودور هرتزل تلاها على المؤتمر، وأنها نوقشت فيه، بل وتذهب بعض الآراء إلى التأكيد على أن المؤتمرات الصهيونية المختلفة إن هي إلا مؤتمرات حكماء صهيون هذه، وأن الهدف من المؤتمر السري الأساسي الأول الذي ضم حاخامات اليهود هو وضع خطة محكمة (بالتعاون مع الماسونيين الأحرار والليبراليين والعلمانيين والملحدين) لإقامة إمبراطورية عالمية تخضع لسلطان اليهود وتديرها حكومة عالمية يكون مقرها القدس!
وتقع البروتوكولات البالغ عددها أربعاً وعشرين بروتوكولاً في نحو 110 صفحات.
ونشرت أول مرة عام 1905 ملحقاً لكتاب من تأليف مواطن روسي اسمه سيرجي نيلوس ادعى أنه تسلم المخطوطة عام 1901 من صديق له حصل عليها من امرأة تدعى (مدام ك) ادعت أنها سرقتها من أحد أقطاب الماسونية في فرنسا.
لكن نيلوس نفسه أخبر أحد النبلاء الروس بأن هذه المرأة أخذتها من رئيس البوليس السري الروسي في فرنسا، وأن الأخير هو الذي سرقها من أرشيف المحفل الماسوني.
ويؤيد المسيري الرأي السائد الآن في الأوساط العلمية الغربية التي قامت بدراسة البروتوكولات دراسة علمية متعمقة وهو أن البروتوكولات وثيقة (مزورة)، استفاد كاتبها من من كتيب فرنسي كتبه صحفي يدعى موريس جولي يسخر فيه من نابليون الثالث بعنوان (حوار في الجحيم بين ماكيافللي ومونتسيكو)، ونُشر في بروكسل عام 1864م.
وهكذا - يقول المسيري - تحول الحوار إلى مؤتمر، وتحول الفيلسوف إلى حكماء صهيون.
وقد اكتُشفت أوجه الشبه بين الكتيب والبروتوكولات حيث تضمنت هذه الأخيرة اقتباسات حرفية من
الكتاب المذكور، وأحيانا تعبيرات مجازية وصوراً منه.
والرأي السائد الآن أن نشر البروتوكولات وإشاعتها إنما كان يتم بإيعاز من الشرطة السياسية الروسية للنيل من الحركات الثورية والليبرالية، ومن أجل زيادة التفاف الشعب حول القيصر والأرستقراطية والكنيسة بتخويفهم من المؤامرة اليهودية الخفية العالمية. ويقدم المسيري دراسة لعناصر خطاب البروتوكولات يدعم الرأي القائل بأنها مزورة، وسوف نستعرضها باختصار شديد:
أولا: يُلاحظ المسيري أن البروتوكولات وثيقة روسية بالدرجة الأولى والأخيرة لعدة أسباب نوجزها كالتالي:
(أ) كُتبت الوثيقة باللغة الروسية، ويبدو أن كاتبها لا يعرف شيئاً عن المصطلح الديني اليهودي، ولا يستخدم أية كلمات عبرية أو يديشية.
وهذا أمر يثير الشك والريبة. فإذا كانت البروتوكولات وثيقة سرية، فلماذا لم يكتبها حاخامات اليهود بالعبرية أو الآرامية أو اليديشية ليضمنوا عدم تسربها خاصة وأن أكثر يهود روسيا آنذاك كانوا يتحدثون اليديشية ولا يعرفون الروسية؟
السنين الأخيرة من النظام القيصري.
(ج) هناك هجوم على الكنيسة الكاثوليكية، وهو ما يدل على النزعة المسيحية الأرثوذكسية السلافية التي كانت تناصب الكاثوليكية العداء.
(د) ثمة هجوم شرس على الماسونية، التي كانت آنذاك جزءاً لا يتجزأ من الحركة الليبرالية والثورية الروسية.
(هـ) هناك هجوم شديد على بنجامين دزرائيلي، رئيس وزراء بريطانيا، على أنه شخصية يهودية شريرة، والذي كان شخصا مكروهاً تماماً من النخبة الحاكمة في روسيا لأنه كان يساند الدولة العثمانية حتى تظل حاجزاً منيعاً ضد توسع الإمبراطورية الروسية.
ثانياً: يؤكد المسيري على أن نبرة البروتوكولات ساذجة للغاية، فمن الواضح أن كاتبها الذي زيفها لا يجيد التزييف.
فقد حاول أن يبين الخطر العالمي لليهود، وحتى يعطي وثيقته درجة من المصداقية، جعل حكماء صهيون أنفسهم يتحدثون عن الخطر اليهودي حتى يبدو الأمر كله وكأنه (وشهد شاهد من أهلها)، غير أنه لم يكن على درجة كبيرة من الذكاء في عملية تزييفه هذه، فعلى سبيل المثال لا الحصر:
(أ) ينطق حكيم صهيون في الصفحة الأولى بالكلمات التالية (يجب أن يُلاحَظ أن ذوي الطبائع الفاسدة من الناس أكثر عدداً من ذوي الطبائع النبيلة)! وهذه عبارة تؤكد الشر المتأصل في صاحبها.
ولذلك فإن السؤال البدهي: لماذا يصر كبير حكماء صهيون على نقل هذه الآراء لحكماء صهيون؟ أليس كل الحاضرين من الأشرار الذين لا يوجد شبهة في شرهم؟! ويقدم المسيري شواهد مماثلة في هذا المجال.
(ب) يحاول واضع البروتوكولات أن يضخم قوة اليهود ليخيف الناس منهم فيجعلهم ينسبون إلى أنفسهم في البروتوكول الثاني كل شر فيقول مثلاً (نجاح داروين وماركس ونيتشه قد رتبناه من قبل)! ولكنه ينسى نفسه بعد قليل وتتبدل النبرة إذ يبدأ اليهود في توجيه الاتهامات لأنفسهم في نفس البروتوكول الثاني حيث جاء فيه (من خلال الصحافة اكتسبنا نقودنا، وبقينا نحن وراء الستار، وبفضل الصحافة كدَّسنا الذهب، ولو أن ذلك سبب أنهاراً من الدم)! وهذه في الواقع -كما يقول
المسيري- عريضة اتهام موجهة للذات؛ فلماذا يكلف كبير الحكماء خاطره ليقدمها لبقية الأعضاء الذين يعرفون ذلك مسبقاً؟! ولماذا يُصر على أن يُخبرهم في البروتوكول الثالث أن (أسرار تنظيم الثورة الفرنسية معروفة لنا جيداً لأنها من صنع أيدينا، ونحن من ذلك الحين نقود الأمم قدماً من فشل إلى فشل، حتى أنهم سوف يتبرؤون منا)! ويتساءل المسيري بحق: لماذا يصف حركته أنها تقود الأمم (من فشل إلى فشل)؟! وهذا غيض من فيض العبارات الساذجة التي تتكون منها البروتوكولات.
ويؤكد المسيري - بشجاعة- على أن الإشارة إلى البروتوكولات واستخدامها في الإعلام المضاد للصهيونية أمر غير أخلاقي لأنها وثيقة مزورة، ولا توجد دراسة علمية واحدة (بالعربية أو غيرها من اللغات) تثبت أنها صحيحة.
وحتى لو كانت صحيحة، فإن من يستخدمها يفقد مصداقيته وفعاليته أمام الرأي العام الغربي الذي لا يؤمن بصحتها.
كما أنه لا يمكن إثبات أنها تعبر بصدق عن دوافع كل الجماعات اليهودية في العالم.
ويرجع المسيري أسباب ازدهار (الفكر البروتوكولي التآمري) في العالم العربي على وجه الخصوص إلى أسباب عديدة نختار منها:
(1) ظهور اليهودي في العصر الحديث في الوعي العربي والإسلامي داخل التشكيل الإمبريالي الغربي،
(2) تأسيس الدولة الصهيونية وعدم مقدرة العرب على تفسير هزائمهم.
(3) لجوء الدولة الصهيونية إلى الحد الأقصى من العنف وسمت نفسها (الدولة اليهودية) فربطت بين اليهودي والعنف.
(4) ادعاء الدولة الصهيونية أنها تتحدث باسم كل يهود العالم.
(5) قيام الإمبريالية الغربية بتحويل يهود البلاد العربية إلى عنصر وظيفي استيطاني يدين لها بالولاء حيث حصلوا على جنسيات غربية.
(6) وجود عدد من اليهود بشكل واضح في الحركات الشيوعية العربية.
(7) الدعم الغربي للدولة الصهيونية بدون تحفظ.
(8) يتحدث العالم الغربي عن فصل الدين عن الدولة ولكنه في نفس الوقت يدعم الدولة اليهودية بأساطيرها التوراتية والتلمودية.
(9) اهتمام الغرب المحموم بالهولوكوست دون غيرها من الإبادات مثل الجزائر وفيتنام والبوسنة والشيشان.
إن المسيري رغم مرضه وتقدم سنه لا يزال يعمل بجد ونشاط يحسده عليه الشباب.
وبالإضافة للعديد من الكتب التي ينوي إصدارها قريباً كما أخبرني في آخر لقاء معه في مقهى (ريش) القاهري الشهير في يناير 2006، فقد بدأ في التحضير ل (موسوعة إسرائيل).
وهو للأسف لا يلقى دعماً من أي جامعة أو مركز أبحاث أو حكومة عربية في هذا المشروع الفكري المهم! فهل من داعم لهذا العمل وغيره من أعمال المسيري التي تقع في صلب معركتنا الحضارية الحقيقية مع العدو الصهيوني؟ أرجو ذلك.
أسأل المولى عز وجل أن يمد في عمر الدكتور عبد الوهاب المسيري، ويبارك فيه، وينفع العرب والمسلمين بعلمه الغزير.
* كاتب سعودي
hamadalisa@yahoo.com