في أحد كتب حوارات لقرن جديد، حول الحداثة وما بعد الحداثة بين الدكتور عبدالوهاب المسيري صاحب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية والدكتور فتحي التريكي صاحب فلسفة التنوع وفلسفة الحداثة، يتضح لنا مجموعة الأسس التي يقوم عليها موقف عبدالوهاب المسيري من الحضارة الغربية والأسس الفلسفية التي تقوم عليها والتي يحددها لنا في الحلولية والعلمانية وما بعد الحداثة.
والكتاب -الحوار لا يحمل توجهات كل منهما المسيري والتريكي ومنهجه وغاياته فقط بل يعد في تصوري صياغة جديدة للقضية التي شغلت المفكرين العرب في العقود الثلاثة الأخيرة حول الأصالة والمعاصرة أو التراث والتجديد مع بعض الاختلافات التي يساعدنا تحديدها في الوقوف على وجهات النظر المطروحة في هذا الحوار بل ويعمق فهمنا له ويفتح لنا آفاقا جديدة لفهم مواقف المفكرين العرب من قضية الحداثة وما بعدها.
يبدو لأول وهلة أن قضية الحداثة وما بعد الحداثة تشغل فقط الفكر الغربي والحضارة الأوربية التي طرحت عند مفكريها خاصة ليوتارد وجاك دريدا مقابل موقف هابرماس وفلاسفة الحداثة، وأننا نحن العرب لا علاقة لنا في صنعها فلا نحن أنجزنا ما نصبوا إليه من حداثة ولا تشغلنا القضايا التي يعيشها الغرب ويطرحها فلاسفة ما بعد الحداثة. بينما صياغة القضية في علاقة ثنائية حول التراث والتجديد، الأصالة والمعاصرة تجعلنا طرفا أولا في هذه القضية. فالتراث والأصالة تمثلان الهوية والذات مقابل التجديد والمعاصرة المستمدان من أوروبا والغرب الآخر، وتبدو المسألة بالنسبة لي لدى المتحاورين على عكس هذا الفهم وهذا هو إلهام في هذا الحوار، ذلك أن هناك عنصراً أساسياً في قضية التراث والتجديد الأصالة والمعاصرة يبدو وكأنه خاف في هذه الصياغة وإن كان له حضوره المهم حول اختيار الحاضر الذي يؤسس تصورنا وحلنا وموقفنا تجاه هذه القضية. وهذا الطرف الثالث وإن كان لا يظهر في صياغة قضية الحداثة وما بعد الحداثة إلا أنه هو المحرك الأساسي لها.
إن القضية كما يطرحها المسيري والتريكي تتعلق منذ الابتداء بموقف المثقف العربي بما يطرحه فلاسفته وما يؤسس هذه الأطروحات، مما يمثل موقف الغرب من الحضارات والثقافات والأديان والمجتمعات غير الغربية، فالحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة هو حديث في التفكيك والاختلاف، في العولمة وتنميط العالم، في القرية الكونية الواحدة والسوق الاقتصادية المشتركة. ويتضمن المسألة المحورية التي تشغلنا وستظل لمدة طويلة قادمة وإن اتخذت أسماء متعددة، وهي الذات والغير الأنا والآخر. ومن هنا فإن قضية العلاقة مع الآخر والعيش سوياً وقبلهما قضية الهوية تكون هي الأساس في مناقشة الحداثة وما بعد الحداثة, وذلك ما يفعله المتحاوران بالفعل وما يتضمنه الكتاب.
تتأكد هذه الفكرة التي استنتجناها والتي أوحتها إلينا أعمال المتحاورين في آخر عبارات الكتاب الحوار في تعقيب فتحي التريكي الذي يؤكد في رده على اتفاقه مع المسيري، كما أكد المسيري أيضاً اتفاقه المتأني وذلك مع التريكي. ويبدون الاتفاق الذي نظنه اتفاقاً أولياً قد يتغير بعد القراءة في نقطتين الأولى الموقف من الغرب خاصة في توجهاته ما بعد الحداثة والنقطة الثانية هي مسؤولية المثقف العربي يقول التريكي:
(لنا نحن في البلدان العربية المختلفة مسؤولية كبيرة في ذلك، إذ إننا لم نستطيع تطوير قيمنا ومقومات حضارتنا حتى نعطيها صبغة شاملة وكونية، فليس للمثقف العربي الآن الحرية الكافية للنقد والتحليل والمشاركة في المناقشات العامة واتخاذ المواقف الجريئة، لأن الحركية الديمقراطية الثقافية هي التي تولد الخيارات القيمية، وهي التي تقدم لهذه الخيارات معاني تتسع لتشمل الحضارة العربية، ولتتجاوزها نحو الحضارات المجاورة). ويتضمن الاتفاق بين التريكي والمسيري اختلافات متعددة بينهما في نقاط جوهرية، تضعنا أمام طرح جديد للقضية يتعلق بموقف المثقف العربي الذي مازال كما يقول التريكي أسير اللعبة السياسية وأسير السلطة الدينية، مازال مستهلكاً للأفكار التي قد تأتيه من أعماق التاريخ، أو تتصل به من حاضره الآخر الذي هو ليس فيه.
علينا إذن أن نستوفي قضية المثقف في بلدان حقها من النقاش وقد أصبحت الشغل الشاغل لمعظم المفكرين العرب المعاصرين، نشير على سبيل المثال إلى ما قدمه كل من ناصيف نصار وهشام شرابي وعلي أومليل من أعمال في هذا المجال.
يتناول المسيري في بحثه القضايا التالية مفهوم المادية، والانتقال من المادية القديمة (الصلبة) إلى المادية الجديدة (السائلة)، انفصال الدال والمدلول المادية النهائية أو نهاية المادية، أسباب ظهور الانتقال من الصلابة إلى السيولة، ما بعد الحداثة والجنون، التفكيك والتقويض من الإنسان الصلب إلى الحيوان السائل، ما بعد الحداثة واليهودية، ما بعد الحداثة والصهيونية والنظام العالمي الجديد. بينما تناول التريكي في خمسة فصول: الحدث، الهوية، الحداثة، وما بعد الحداثة، الحداثة ووحدة العقل، الحرية، التعقلية، والفصل الرابع العولمة ومعضلة الثقافة وأخيراً العيش معاً.
ويتضح من الموضوعات التي عرض لها كلاهما، اهتماماتهما السابقة التي عرض لها كل منهما في كتاباته السابقة وعرفا بها. فالمسيري مثقف عربي تخصص في النقد الأدبي وتبنى أفكار اليسار الجديد وخصص العقود الثلاثة الأخيرة من عمره لدراسة اليهودية والصهيونية إضافة إلى انشغاله بما أطلق عليه (فقه التحيز) وتحول إلى ما يسمى الخطاب الإسلامي الجديد. والتريكي الذي تخصص في الفلسفة ويشغل أستاذ كرسي اليونيسكو لها في المنطقة العربية. بجامعة تونس الأول تعمق في التيارات المعاصرة خاصة في الفلسفة الفرنسية مع دراسات في الفلسفة الأفلاطونية والديالكتيك وتاريخ العلوم العربية.
ينحاز المسيري للحداثة ويرفض ما بعد الحداثة وما يرتبط بها من نتائج ويناقش أصولها ومصادرها ونتائجها مع إدانة لهذه المصادر والنتائج خاصة لدى نيتشه وفرويد ودريدا ويقترب من موقف مدرسة فرانكفورت خاصة لدى هابرماس في تحليله للعقل الأداتي ونقده له وتأكيده على العقل النقدي وتبنيه له وذلك تحليلاً للحضارة الغربية وإدانة بممارستها.
ويتبنى التريكي الذي يرى أن ما بعد الحداثة في نهاية التحليل هي لحظة ممتدة للحداثة الأوربية ما يستدعي تبني المواقف الحداثي والتأكيد على العقل والحرية ومن هنا فهو يعيد تحليل فهمنا للمادية بناء على تطور العلم المعاصر في رده على المسيري مع إعادة الاعتبار لدريدا والتفكيكية وفوكو والهامشية.
يرى المسيري في تعريف التريكي للعقل المحايد ورؤيته للتحديث التي تنطلق من هذه المفهوم بداية للتعقيب وتوضيحاً لفهم المسيري عن العقل الذي يتجاوز الأداتية إلى النقدية. يلاحظ المسيري أن التريكي ابتعد كثيراً من مفهوم العقل المحايد، والعقل من حيث هو عقل، والعقل من حيث هو القائم الأول للتحولات العميقة والقاطعة في كل الميادين الفكرية واللسانية. وأنه في واقع الأمر يتحدث عن نظام أخلاقي يسبق العقل من حيث هو عقل فبدلاً من العقل المحايد نجده يتحدث عن العقل في صيغته المنفتحة والكونية في الآن نفسه.
وإذا كان المسيري وجد في مفهوم العقل مدخلاً لمناقشة موقف التريكي فإن التريكي توقف أمام بعض المواقف الفكرية الفلسفية التي تحتاج إلى تدقيق أكثر وهو يقتصر على ثلاثة منها أولها مفهوم المادية، الصلبة والسائلة من أجل ضبط المفهوم وتصوراته وقوماته. ويرى أن علينا البحث في بنية المادة بمنظور علمي لنتجنب السهولة في أخذ المواقف وبعد تحليله العلمي يستنتج من تعقد الأسباب وكثرة الظواهر صعوبة اختزال المادة إلى عنصر محدد مهيمن. فلا المادية الصلبة ولا المادية السائلة هما سمتا الحضارة الغربية فكل الحضارات تتضمن تلك العناصر بدون استثناء لتكون الغلبة تارة للمادية بقسميها، وتارة أخرى للروحية بتقسيماتها المختلفة، في الفترة نفسها حسب الظروف والمعطيات الداخلية والخارجية.
والمسألة الثانية هي دريدا والتفكيكية وهي مسألة مهمة شغل بها المسيري وتناولها في كثيراً من أعماله متخذاً من دريدا والتفكيكية موقفاً نقدياً أشار إليه عدد من الباحثين منهم محمد الينكي في كتابه: دريداً عربياً لا ينكر التريكي وجود علاقة بين فلسفة دريدا واليهودية وإذا كانت يهودية دريدا قد أثرت في فلسفته فذلك بديهي ومن حقه الكامل الانتماء إلى حضارته والدفاع عنها كما هو من حقي أنا أن أنتمي إلى حضارتي الإسلامية وأدافع عنها. ويورد لنا نصوصاً من كتاب دريدا (كيف سيكون غداً) توضح موقفه من ضرورة قيام الدولة الفلسطينية وأن لها كل الحقوق. (ص310)
يوافق التريكي على قول المسيري بالاتجاه الهدمي التقويضي في فلسفة دريدا، أنه يرى وهو محق أن علينا أن نؤكد على أن الفلسفة لا تكون مجدية إلا إذا فتحت آفاق الفكر نحو النقد الجذري وتجاوزت حدود الظنون والأفكار السائدة. فبدون حركية النقد والتقويض والتشهير لا يمكن للفلسفة أن تكون مجدية ومبدعة. وعلى هذا يتوقف أمام ما يسميه الوجهة الإيجابية لفلسفة دريدا التي تعطي للغيرية أرضية صلبة لتتدخل في إعادة سياغة كونية للإنسانية لا تقوم على هيمنة الغرب، بل على مفهوم الضيافة وقواعدها التي ستعطي للعلاقة التي تربطني بالآخر صبغة تسالمية منفتحة فيها احترام متبادل للهويات وللمعتقدات وللمآرب والطموحات. ذلك هو موقف التريكي ونحن في غنى عن إعادة تأكيد المسيري على أهمية النقد وعلى رفض الهيمنة الغربية وبحثه عن صيغة منفتحة على الآخر وسوف نتوقف على تفاصيل موقفه بعد استكمال النقطة الثالثة في تعقيب التريكي على بحثه والمتعلقة بفوكو والهامشية، فالتريكي يصف ما بعد الحداثة بفلسفة الهامش، وهو يتوقف عند فلسفة فوكو الأخيرة التي يرى أنها وقبل كل شيء فلسفة الذات. وينتهي إلى أن ما بعد الحداثة ليست فترة تاريخية مستقلة عن الحداثة، هناك فقط تحولات اقتصادية واجتماعية أعطت للأمبريالية آليات جديدة للهيمنة أكثر وهي ما يدنيه التريكي والمسيري في نفس الوقت.
ويفصح الحوار بين المسيري والتريكي فالإضافة لموقفهما من الحداثة وما بعد الحداثة عن عدة مسائل أهمها في نظري يتمثل في توجه المسيري نحو إقامة نسق فكري يقوم على الثنائية والتجاوز والإنسان الروحاني الديني الرباني مقابل الإنسان الغربي المادي الطبيعي الجسدي، بينما الفلسفة عند التريكي، الذي يطلق عليها أحياناً الحداثة أو الفلسفة الشريدة، وما تبناه تحت عنوان المعقولية والتجاوز، هي أداة للنقد، لذا يربط بين العقل والحرية ويتخذ من التعدد والتنوع طريقاً للديمقراطية ورفض الكلية والاتجاه الكلاني. وهما معاً يدينان ممارسات الغرب. مما يجعلنا نؤكد معهما على أهمية العقل النظري في قضايا المجتمعات العربية وأهمية دور المثقف ومسؤوليته في ذلك مما يؤكد على أهمية الحداثة بالنسبة للمفكرين العرب فهي لحظة أساسية وهي ما تزال مشروع لم ينجز بعد.