أتابع مع زوجي عرض مباراة في التلفزيون يشارك فيها فريقه المفضّل. يعايش أحداثها على الشاشة عن بُعد وكأنه في قلب الميدان، يوجِّه التعليمات ويقرّر مدى صحّة قرارات الحَكَم.. ثم سرحت شبه نائمة لتصوُّر سيناريو فيلم عن مباراة كرة. بدأ بسيط الحبكة في البداية حيث يوحي بأنك مشاهد يتفرّج على مباراة، متابعاً تحركات اللاعبين والحكم . والعقدة فيه أن تكون متفرّجاً في صفوف ملعب كرة كبير تشاهد مباراة مفصلية - لك فيها فريقك المفضّل - وتعلم أنّ ما يحكمها لن يكون ضعف فريق وقوة الفريق الآخر، بل نوعية أحكام «الحكَم» ولا تملك إلاّ أن تدعو للحكم بالشجاعة وتذكر مثاليات الروح الرياضية.. حيث لن يبقى في موقعه حكماً إذا استمر تكرُّر تحيُّزاته أو انحراف رؤيته وتصنيفه للأحداث خلال المباراة. ولكن السيناريو لا يبقى هكذا، ببساطة عند حد طفولية الحلم بالمعجزات والروح الرياضية ومثاليات المدينة الفاضلة. فالحكم البطل في هذا السناريو المسرحي مباراته الحقيقية صراع مجازي مع حضور «غائب» وشرير. والحكم البطل مقيّد القرار ومكبّل ذهنياً ليس بإغراء رشوة أو تهديد ابتزاز، بل بتهديد بالقتل إن فاز الفريق الأفضل.. استنتاج كابوسي وسيناريو فيلم رعب لمشاهدي الأحداث على الشاشة القادرين على تخيُّل الغد ما بعد المباراة، بشمولية يفتقدها المتفرّجون المصفقون على المدرجات.
ومع تخيُّل الغد استعادني الزمن إلى تحرُّك اللعبة على شاشة التلفزيون وأنا أستعيذ بالله من كل شرير متخيَّل أو حقيقي.
* * *
يشرح أفلاطون نظرّيته لنسبية الحقيقة والخيال وتأثيرهما على القرارات والأفعال، بتصوُّر مجموعة تجلس في كهف مظلم، وهناك ضوء في الخارج تمر أمامه الكائنات فترتسم ظلالها على حائط الكهف. وهذه الظلال المتحركة هي المصدر الوحيد لمعلومات البشر الجالسين داخل الكهف لمعرفة كنه الكائنات المتحركة أمام الضوء.. فهم لا يرون الكائنات ذاتها بل يرون ظلالها، ويحكمون على حجمها وخطورتها، عبر ما توحي به إليهم هذه الخيالات المنعكسة وتفسير الحركات الموحية.
هذه النظرية الفلسفية العلمية العميقة التي تفسّر علاقة أفكار البشر وقرارات أفعالهم برؤيتهم وتفسيراتهم لما يظنون أنهم يرون، استخدمت في برنامج صور متحركة أعدّ للأطفال، عن نظرية النسبية بين الحقائق العلمية والتصوُّرات المتخيّلة. هنا ترتسم على جدار يقبع أمامه القط توم منكمشاً مرتجفاً، حيث أيقظته من راحة غفوته همهمة مخيفة ، ليجد نفسه أمام ظلال كائنات عملاقة الحجم تزرع الرعب في قلبه. ثم يكتشف أنها فئران صغيرة تتحرّك أمام مصدر ضوء يضخم ظلالها وحركاتها، مستغلّة تأثير العلاقة الفيزيائية التي تربط بين الأجساد وظلالها، والمسافة بين هذه وتلك، لتتحوّل في نظر الرائي إلى أحجام ديناصورية تستثير الرُّعب. وبمجرّد أن يدرك القط هذه التمثيلية الهادفة لإيهامه وتخويفه ينزع الستار فيكشف حجمها الحقيقي، ويستعيد ثقته بقدرته الطبيعية .. ويضحك الأطفال مهلّلين بإدراك البطل للحقيقة.
كم في حياتنا الحقيقية كبشر من حالات شبيهة؟؟ وكم هناك من ضحايا الإيهام الذين لا يجرؤون على تحدّي اكتشاف الحجم الحقيقي للكائنات المرعبة، مرتسمة على جدار من وراء ستار ومصدر ضوء تشوّهت مهمّته من توضيح التفاصيل إلى تزييف الحقيقة؟
* * *
وقت كتابة هذا المقال تفكيري مشغول بقضية الساعة ولكني لا أعرف ما ستنتهي إليه أحداث مباراة الغد (الأمس وقت قراءتكم له). وسنراها على وسائل الإعلام . هنا أدعو الله من قلبي أن يستطيع «الحَكَم» التحرُّر من تأثير مفعول الظِّلال والضوء المزيف للأحجام. وإذ يفقد العدو المستتر وتهديداته سلاح الترهيب للتأثير في القرار الصحيح، ستنتهي الحرب المجازية للتحكُّم في المدينة الفاضلة. ويحتفظ الحَكَم النبيل باحترام جميع اللاعبين والمتفرّجين لمصداقيته وهيبته.