كان هناك الكثير من الأصحاب، نخبة مميزون من الكويت زرعوا في نفسي البهجة والسرور وبقية أخرى بهية نقية لا تحضرني أسماؤهم الكريمة، اجتمعنا في “القلت” في الشمال من “حفر الباطن” في ليلة باردة أدفأها حميم اللقاء، اختلط بعضنا ببعض،
جلسنا بعضنا نصف مستلقِ وبعضنا مصرورا في جلسته، لكننا تقاطعنا أو تقاربنا في حلقة غير ضيقة، بدأ الأصحاب يتداولون الحكايا والقصص وبعض القصيد، اختلطت حركة الأيدي بالعبارات المشوقة، كنت معهم لكنني نسيت نفسي من فرط سروري وفرحي، أخذت أنظر خلسة إلى الوجوه المستبشرة على أطراف الدائرة المفتوحة، كان الليل قد حل، وبدأ القمر ينثر ضوءه البهي وفق لوحة جمالية باهرة، مع امتداد الوقت دخلنا بالتدريج في مرحلة البرد شبه القارس، في الطرف القريب أحد الأصحاب أخذ يشعل الحطب لكي يمنحنا بعضا من الدفء، كان لهب النار منتشياً تحت نور القمر، النار تتحرك بقوة كأخطبوط ضخم أذرعته العمياء المجنونة تندلع في كل مكان، أضيء المكان لكن بأشعة حمراء دبغت الوجوه،فيما النار المعربدة لا تضخ فقط ضوءاً دموياً ولكن حزماً من الظل شبه الداكن، صارت وجوه الأصحاب أرجوانية مسحورة من داخل خيوط اللهب المتماوجة، بل بدت وجوههم كظلال تتلامح وتتحرك على الأرض القمراء الساخنة المشوية باللهب، كنت لا أزال أجول نظري في الفضاء المزدان بضوء القمر، قلت سأعبر لوحدي فضاء الصحراء المقمر والمرصع بالنجوم التي تشبه القناديل المتباينة، أنا الآن وحدي متأملاً إبداع الخالق وعظمته وقدرته، في هذه اللحظة لم أجد كلاماً سوى التهليل والتسبيح ومفردات الحمد لله الذي نقلنا من الشتات والخوف والحرب والهاجس إلى محيط الأمن والأمان والعافية على يد - الملك عبدالعزيز - الذي رسم لنا الغيمة والمطر وفرز لنا عذب الماء عن ملحه،وحول لنا الفيافي شجرا،حتى غدا لنا اللون لونا،والعافية عافية،شعرت حينها بتدفق طاقة لا أعرف ما هيتها تسري بروحي مشحونة بالإيمان العميق والحنين وصور الماضي العتيق التي أرجعتني وأغرقتني حينها بدفآت المنى، مستنشقاً عبق الأيام الماضية الذي أحالتني إلى تداعيات فصولها كنصوص سردية تحكي انهماك الذات بالأرض وركوب المخاطر في الفيافي من أجل الظفر بنبتة الخلود كعادة النفس البشرية التي لا تتوقف عند حد،كثيرة هي الأسئلة التي أثرتها حينذاك، نظرا لسهولة تشكيلها الطري على مدارات تكوينية، متعددة السياقات والتنظيرات التي كنت أسعى إلى الإمساك والظفر بصورها التي جاءت على شكل ومضات سريعة لكن إيحاءاتها وأشكالها كثيفة ومتنوعة، لقد تشابكت لحظتها عندي مكونات الماضي طريقة ورؤى مفهوماً وامتداداً، لقد جاءتني وجوه كثيرة أولها الراحل - سليمان الفليح - ذلك الطالع من أحلاملفقراء الذي مات يوم توقف عن الكتابة، والذي رحل كنسمة عابرة في ظهيرة حارة، تماماً مثل كتاباته الهامسة،كان بلا مبالغة من أكثر أبناء جيله إخلاصاً للكتابة، وأكثرهم مسكوناً بهم الجماعة دون الأنا،وانتهاء بوجه - فضة - التي داهمها وزوجها - غربي - فيضان الشعيب، كنت أصطاد الصور من لوحة الماضي كدرويش كريم في زمن بخيل، تأتيني تباعاً كبرق، هي الصحراء بكل مكوناتها ،الرمل والشوك والشمس والثلج والريح والبرد وشد الرحال والجمال وخيام الوبر والرجال السمر والرمال الحارقة، وكمن أعطي فرصة ثمينة، رحت أمشي طويلاً في الفضاء الفسيح، أتحاشى الاصطدام بنوافذ الماضي الكبيرة،
وغبش لياليه،والملح والرماد،والجرار المكسورة،والفخار التي عفرها الرماد،ورشح الدم،والحشد، وإنشاد الذهول، وأغني للحاضر البهي وفق احتفالية خاصة فيها سعد مفتوح ولبان وماء وشمس وحناء والكحل يغمز في عيون النساء.