كان الإنسان يعيش معتمداً على جهوده الذاتية في مقاومة الأخطار، وبناء مقومات حياته. ثم بدأ يتعاون مع الآخرين لتقوية الجهود المشتركة في تحسين أوضاعهم المعيشية، والتصدي للأخطار المحدقة بالمجتمعات الإنسانية البدائية، وفي تطورات وئيدة بدأت الجماعات الأولى تتعلم فن التعامل الجماعي مع حاجيات المجتمع؛ عن طريق توزيع الأعمال الرئيسة من جهة، وتبادل أدوار المنافع، وتحقيق المصالح المشتركة من جهة أخرى، فأصبح الأفراد ينقلون فائض ما ينتجونه من موارد غذائية، أو يصطادونه من اللحوم والأسماك، إلى غيرهم، ممن هو في حاجته، ليأخذوا منه ما لا يحتاج إليه. وهكذا أصبحت المنتجات تُتداول في تعميم للفائدة، وترشيد للجهود والموارد.
ومع كثرة تداول المبادلات العينية بدأ تفكير الإنسان (الأكثر تقدماً: الهومو سابينز) في تطويع هذه الإجراءات إلى تنظيم أكثر صرامة، وأقل استهلاكاً للجهد؛ فبدلاً من حمل كل تلك الأشياء العينية، وإمكان تعرضها – خاصة الزراعية منها – إلى التلف، عمد الإنسان إلى احتسابها ضماناً للحصول على ما يحتاجه من الآخرين، فأصبحت المنقولات ثابتة، والبرهان على ملكيتها وخضوعها للمقايضة عند الحاجة، لا يزيد على خاتم منقوش، أو قطعة معدنية ضرورية لأعمال السبك المختلفة، وتحمل قيمة نفعية في حد ذاتها.
وعندما زادت الأمور اضطراباً، وتحسنت ظروف الإنسان التواصلية، لجأت الجماعات البشرية إلى إصدار الصكوك، التي تثبت ملكية الإنسان للأشياء العينية، خاصة غير المنقولة، أو التي يكون نقلها صعباً. وخلال حقبة تطوير سك المعادن، بدأ الإنسان يصنع النقود المنقولة، التي يستعاض بها عن قيم الأشياء العينية التي تساويها. ومع مرور الزمن أصبحت هذه النقود لها قيمة في ذاتها، ونسي الناس أنها كانت عوضاً عن تلك الأملاك غير المنقولة.
وبالرغم من أن سك العملة قد سهّل على البشر كثيراً من تعاملاتهم، ونقل التجارة الفردية والجمعية بين التجمعات البشرية المتقاربة والمتباعدة، إلى آفاق أكبر؛ إلا أنها أيضاً كانت لها تطوراتها المتسارعة، منذ أن أصبحت ورقية، ومرتبطة بآليات اقتصادية معقدة من الإنتاج والتبادل بين الدول، إلى أن أصبحت رقمية خالصة، لا تحتاج فيها التعاملات حتى إلى نقل الورق أو طبعه، ولم يعد في دول كبرى الأمر بحاجة إلى أرصدة من الذهب أو غيره. وهذا يعني أن فكرة «النقد البديل» لم يعد بديلاً، لأنه لا يوجد مبدل منه.
فهل أخطأ الإنسان عندما سكّ العملة؟
وهل أدى به هذا التغير إلى عبادة المال، ونسيان المبادئ الرئيسة، التي من أجلها لجأ إلى سياسة التبادل العيني، ثم بواسطة الصكوك والعملات، فأصبح الناس يسعون إليه بوصفه حاجة ملحة للحياة. وكأن الجنس البشري قد تعرض لتطور جيني جذري؛ تحولت من خلاله مطالبه من إشباع الغرائز والمتطلبات الغريزية، إلى الإيغال في التعلق بالمال، بوصفه أساس مكونات الحياة.
فقد كان التعامل يقوم على الحاجة إلى التبادل وتوزع الأدوار .. وحينذاك لم يسع أحد إلى أن يستهلك أكثر من حاجته؛ لكن بعد أن أصبح المال النقدي قوة شرائية، ووسيلة حصول على مكاسب متعددة في أيدي المستهلكين، تحول الأمر إلى محاولات فرض الشروط التي تناسب مصالح صاحب المال.
ولم يتوقف التطور الديناميكي لهذه العلاقة على تحول الوسيلة (وهي النقد البديل الكلاسيكي للعيني) إلى غاية للحياة نفسها؛ بل تحول البشر في أواخر القرن العشرين الميلادي إلى النقد البلاستيكي، الذي لا يحمل فيه المرء نقوداً، ولا صكوكاً مرئية على ملكية الأشياء، بل هي البديل من وجود البديل العيني. فأصبح السحب الالكتروني هو الوسيلة الأكثر شيوعاً في المجتمعات المعاصرة؛ وهو ما أدى إلى تزايد الأزمات المالية التي تعصف بمبادئه.