ليس ردّة الفعل اتجاه العالم الخارجي، أو الإدراك الحسي له هو ما يفرِّقنا عن بقية الكائنات أو أشياء العالم من حولنا. إنما «الوعي» هو ما يضفي بعدًا آخر على الصُّور الذهنية والمدركات في الواقع. وهو نشاط عصبي يظهر التأثير الفكري والعاطفي على الإِنسان.فالحيوان أيْضًا قد يدرك الفرق بين قطعتي حجر وفاكهة، بينما يسمى ارتباط الشيء بالأفكار والذاكرة والعاطفة بالوعي.
لكن غالبًا ما يصاب العقل بحالة جمود وتبلد تُؤدِّي إلى حالة من موت للأسئلة، بسبب تراكمات المعرفة وعلاقتها بالزمن. وتُؤدِّي العادة والروتين إلى حيول البعد الإنساني تجاه المعتاد من الأعمال والأفكار. فيستبد الإدراك الحيواني - الحسي على العقل، فيتركه سارحًا في بحيرات آسنة من اللا وعي والجهل الذي يوفر للمرء حدًا أدنى من التفكير ودرجة عالية من الراحة والبهجة المزيفة!.
والقفز لمرتبة الوعي بحاجة لثمن ضخم وهو الانتقال من المكان لتغيير زاوية الرؤية. أقول: إن الثمن ضخم؛ لأن الإنسان مغلول بعاداته، مرتبط بالمكان والزوايا. لهذا يكون تغيير الزاوية أمرًا عسيرًا للغاية على شخص بسيط وشديد الارتباط بالمكان والأشياء والأفكار.وبالأخص حينما يكون معزولاً وأميًا. فالبيئة المعزولة هي أكثر بيئة خصبة لتعقيد الجهل والتباس الأفكار ومحدودية الرؤى.
هذا ما حصل مع «سيسل غاينز» الخادم الأمريكي الذي عمل في البيت الأبيض وعاصر ثمانية رؤساء. الذي يُؤدِّي دوره الممثل «فورست ويتكير» في فيلم The Butler الذي يعرض الآن في السينما. و»سيسل» رجل أسود ولد في حقل قطن عن والدين مستعبدين للبيض في جنوب أمريكا، لكنه يواجه صراعًا مع ابنه الذي التحق بحركة الحقوق المدنية للمطالبة بالمساواة بين السود والبيض في تلك الفترة المتأججة بالصراعات العنصرية ضد السود. مما أدَّى إلى قطيعة طويلة بينهما دامت لـ25 عامًا تقريبًا. حتَّى حانت لحظة تغيير الزاوية، ومنها إلى انبثاق نور الوعي واتضاح الرؤية. كان موقفًا عاديًا وصغيرًا مقارنة لمحاولات الابن لإقناع والده بضرورة حراكه. حيث تلقى الخادم وزوجته دعوة لحضور حفل تقيمه زوجة الرئيس كضيف وليس كخادم.
كان بحاجة لحركة واحدة للفوز، مثل حركة شطرنج ذكية. كان بحاجة لأن يجلس على الكرسي كمخدوم لا كخادم.. مرة واحدة ينظر للعالم حوله من زاوية أخرى، أن يأخذ كأس العصير لا أن يقدمه. أن يُرضَى لا أن يُرضِي.
بعدئذ، وبطريقة الأقدار العجيبة تنهال على رأسه الصُّور والأفكار، أنّه مخاض الوعي. وقتها أخرج ذكريات ابنه من صندوق مغبر قديم.. وقال: «أنت لست قاتلاً، أنت بطل!».