لقد قلت، ولما أزل مصراً على القول: إن الكلمة الزائفة مِعْولُ هدمٍ لوحدة الأمة الفكرية، ومهادُ فتن تُصَدِّع هذه الوحدة، وكل من أصر واستكبر على رأيه، وفارق الجماعة باجتهاده،
واستهوته زيوف الحضارة الغربية، واستمالته الأحزاب بمعسول الوعود البراقة، فهو شر مستطير على أمته، وعلى وحدتها الفكرية والإقليمية.
لقد كنا أمة واحدة، نحترم السلطة الشرعية: دينية كانت، أو سياسية، أو مجتمعية، ونحيل خلافاتنا بعد مقاربتها للنضوج لأهل الذكر، ونبدي رؤيتنا، ولا نفرضها، وندفع بآرائنا، ولا نصر عليها، ونجادل ولا نلزم، ونقول ولا نصر على ما نرى، ولا نحتكر الحقيقة، ولا تستميلنا البروق الخُلَّب. ولما كشر الأعداء عن أنيابهم، واجتاحت عالمنا اللعب السياسية القائمة على مبدأ (فرق تسد) وعلى سياسة (جَوِّعْ كلبك يتبعك) تهافت الخليون على بؤر التوتر ومناطق الفتن بالقول والفعل، وأصبحنا بسذاجتنا واندفاعنا طريدة للأقوياء، وأصبح عالمنا يتجرع مرارات الضربات التأديبية، والدسائس القذرة، وإحياء النعرات، والطائفيات، والإقليميات؛ مما أدى إلى تلاحق الترديات في أشيائنا وأخلاقنا، وفي كل يوم نخسر موقعاً، ونفقد لحمة، ونزداد من الفتن كيل بعير.
- فما الذي يراد بنا؟
- وما الذي يراد لنا؟
- أشرٌّ أم رَشَد؟
وحين تتعرى الحقائق، وتتكشف الزيوف، ويُحَصْحَص الحق.. ماذا يجب أن نفعل؟
- هل نمضي في غَيِّنا، ونُمَكِّن أعداءنا من رقابنا؟
- أم نتقي الفتن، ونعتزل القوم، ونفكر في سبل النجاة؟
من الحكم المتداولة مع وقف التنفيذ: (العاقل من وُعظ بغيره)، ونحن نرى الفواجع والبواقع في أنفسنا، ولا نكترث، ولا نتساءل، ولا نراجع فِعْلنا الذي أردانا. فإلى متى نظل رهينة المجازفات والمغامرات؟
لقد ثبت خَطَلُ فِعْلنا؛ فهل نحترف لأسلوب جديد، يُبقي على رمق الحياة، ويُوقف الهرولة إلى الهاوية؟
الأمة العربية مستهدفة في عقيدتها التي هي عصمة أمرها، وفي دنياها التي فيها معاشها، وفي أمنها الذي فيه سعادتها، وفي أخلاقها التي فيها شرفها. ونجاتها لن تكون على يد أحد سواها، فمن عَوَّل على الشرق أو الغرب فقد أضاع الجهد والوقت، وفوت على نفسه فرص التفكير والتدبير والتقدير. إن مقومات النجاح كامنة في الأرض العربية، وفي أعماق الإنسان العربي، ولم يبقَ إلا أن يكتشف الإنسان العربي كوامنه، وأن يقول للآخر بملء فمه:-
(فامْنَع نَوَالك عن أَخِيك مُكَرَّماً
فاللَّيثُ ليس يَسيِغُ إلَّا ما افْتَرس)
لقد خَدَعْنا أنفسنا قبل أن يخدعنا الماكرون، حين تصورنا أن الحل بيد الشرطي الغربي، وأن حلَّ العُقد بيد المؤسسات العالمية.
والحقيقة أن الشر المستطير من البيتين: (الأبيض) و(الكرملين)، وما تم إنشاؤه من مؤسسات تقول ولا تفعل، وحين تتحامل على نفسها، وتقول بعض الحق لا يطاع لها أمر.
لقد فوجئ العالم بامتناع (المملكة العربية السعودية) على لسان وزير خارجيتها عن إلقاء كلمتها في الأمم المتحدة، احتجاجاً مُهَذَّباً على المماطلات والتحيزات التي بدت من تلك المؤسسات التي تشبه بفعلها وأهدافها [مسجد الضرار]. وتلك خطوة أولى في طريق التخلص من التبعية.
فهل يعي أصحاب القرار العربي ما بلغته أمتهم من الذل والهوان، ويتخذون مبادرات مماثلة، تعيد للأمة شيئاً من مكانتها وكرامتها، ونزراً يسيراً من حقوقها المهدرة أو المسلوبة؟
لقد لعب الشرطي الغربي لعبه الفاشلة في [العراق] و[الشام] ومن قبل في [الصومال] و[باكستان] و[أفغانستان] وأحل الأمة العربية بمبادراته دار البوار، ولم يبق إلا أن تتولى الأمة العربية جميع أمورها:-
(ما حَكَّ جِلدك مِثْلُ ظُفِرك** فَتَولَّى أَنْتَ جَمِيع أمْرِك)
وقبل أن تتولى الأمة جميع أمورها، أو بعض أمورها، يجب أن تعرف النخب العربية المتصدرة لإعلامها أنها بأمسّ الحاجة إلى تقويم مواقفها، وتصحيح مسارها. فالتنازع، والتنابز، وتبادل الاتهامات، وممارسة الإقصاء، والتصنيف، والاستعداء والاستعلاء، والاستبداد بالرأي، والإصرار على القول، وخيارات التقليد والاستلاب لم تعد مجدية، ولن تشكل أرضية مناسبة لبدء الاستقلال بالرأي، وتولي أمور الذات، والخلوص من ربقة التبعية.
إننا أمة نمتلك حضارة ولغة وعقيدة وتاريخاً، والتفريط بشيء من ذلك تكريس للتبعية. فلنستبد (والعاجز من لا يستبد).
والاستبداد لا يعني الصدام أو الصراع أو الرفض. الاستبداد أن نفترع شواخص الآخر، لنأخذ أحسن ما عنده، وأن نوفر للآخر حقه وكرامته، ليأخذ، ويعطي على قدم المساواة، وأن نَكفَّ عن سَبِّ مقدسه ومبادئه وأنظمته، ليكف عن سب مقدسنا عَدْواً بغير علم.
الاستبداد أن نتفاعل مع الآخر، وأن نصالحه ونتعايش معه، وأن نوفر له أمنه، ليحقق الإنسان رسالته في الحياة:- عبادة لله، وعمارة للكون، وهداية للبشرية.