عاش جيلي حَيَواتٍ مُتَباينة، تباين الأضداد، لو سُقْتُ أطرافاً من بداياتها لأحفادي وجيلهم، لكنت كمن يُحَدِّث الناس بما لا يعقلون. والتقلبات والمتغيرات: حسية، وفكرية. والعامة قد لا تعي إلا الحسِّي منها. أما المعنوي فينساب كالخدر في مفاصل الأمة، بحيث لا تعي أثره إلا بعد ما يكون جزءًا من تكوينها.
لم أكن من جيل النفط المترف، وإن عِشْتُه بكل أفراحه، وأتراحه، وترفه، واسترخائه، ومفاجآته.
كما لم أكن من جيل القحط والأمية وشظف العيش. ومن ثم فأنا من الجيل المخضرم، الذي أخذ من كل شيءٍ بطرف، وحُقَّ له أن يكون شاهد العصر.
المفاجآتُ الغرائبية تُحْدِثُ بعد كل تَغْييرٍ تغييراً مناقضاً، لا يمُتُّ إلى سلفه بصلة، ولا يَمُدَّ بسبب إلى خَلَفِه. هذه التقلبات المتسارعة كما الصخور التي حَطَّها السيلُ من علي، تحتاج إلى نظراتٍ ثاقبة، وتصرفات متأنية، وتفكير دقيق، ، تُثَبِّتُ الأقدام، وتَرْبِط على الأفئدة، وتقي الأمة مصارع المغامرات الطائشة.
فجيلُ النفط لم يُدرك بدايات المدَنِيَّه، بخطواتها الوئِيدة، وممانعاتها العنيدة، وتحفظاتها المستريبة من كل جديد، والتلويح بِسَدِّ الذرائع، ودرء المفاسد، واستخدام هاتين القاعدتين الرائعتين بإسراف، كاد يفقدهما المقاصد الإسلامية.
لقد عاش جيلي البدايات الساذجة، ووعينا معًا المخاضات المؤلمة: الطبيعي منها، والمبتسر، وغالبْنا عيش الكفاف، وشظف الحياة، واجتهدنا ما وسعنا الاجتهاد، لكسر الطوق التحفظي، الذي أحكم صُنعه أناسٌ طَيِّبون، طلَّقوا الدنيا، وخافوا المُسْتَجِد. فكل الذين شارفوا الثمانين، - وإنا بِهِم من اللَّاحِقين - يعون تفاصيل الحياة بكل قَسوْتها، وشح عيشها، وطمأنينة أهلها، ووداعَةِ شأنها كله. ويدركون رفع القواعد السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، وسائر متطلبات المجتمع المدني، بجهود ذاتية، وإمكانيات شحيحة. لأنهم عاصروا سِتَّة ملوك، يستبقون الخيرات، وتختلف فيما بينهم الأولويات.
فالملك [عبدالعزيز] - رحمه الله - شُغِل بمعارك التوحيد، واهتم بجَمْع الكلمة والصف والهدف، فكان بحق رجل العصر بكل ما تعنيه تلك الكلمة. والملك [سعود] - رحمه الله - كان رائد التأسيس للمجتمع المدني بكل تواضعه وبدائيته. فيما جاء الملك [فيصل] الشَّاهِد والشَّهِيد، ليواجه بحنكته تنازع الشرق والغرب على الطريدة العربية.
ولما اندلقت اقتاب [النفط] تلقاها الملوك الثلاثة:- [خالد] و[فهد] - رحمهما الله - و[عبد الله] سدد الله على الدرب خطاه باليمين، فكان الرخاء والإعمار، وللحاق بركب الحضارة المُخِبِّ.
أبنائي، وبناتي، وأحفادي، وأسباطي لا يعرفون الكتاتيب، ولم يمارسوا الجثو على الغبراء، والتحاف السماء، ولم يسكنوا بيوت الطين، ولم يستنيروا بالسُّرج، ولم يَكْتفوا بالأسودين: التمر والماء، ولم يركبوا الحُمُر الأهلية، ولم يناموا بعد العشيات، ويستيقظوا قبل الفجر، ولم يمتحوا المياه الآسِنَةِ من الآبار، ويجلبوها على الرؤوس، والأكتاف، وظهور الحمير، ولم يَمْشُوا على الرمضاء حفاة.
هذه الحياة التي أغْرَقَها طوفان النفط، خَلَفَت من بعدها حياةٌ مترفة مُرَفَّهة مَصْنوعة، أضاعت الجِدَّ. وأنتجت جيلاً، تتنازعه رغبات الجد والترف، وسواده الأعظم تلبَّس بعادات، لا تَمُتُّ بصلة إلى جيل ما قبل النفط. جيلاً عايش أحْدث وسائل والنقل، وأدق أجهزة التواصل، وأبرع التِّقانة المعلوماتية، وسائر وسائل التكييف والتصريف، التي كادت تسلب الإنسان إنسانيته، لتحوِّله إلى جُثَّةٍ آلية، يُحَرَّك، ولا يتحرك. عَطّلتْ عضلاته، وأرهقت فكره، وأحلَّت الآلة محل مهاراته، ولما يزل في صراع مستحر مع ما سلف من أجيال.
ولقد تَتَمخَّضُ الحياةُ إِنْ دام ترفُها، واسترخاؤها عن جيل ثالث، ليس في العير، ولا في النفير. وفي هذه الأجيال الثلاثة يكمن تاريخٌ أغربُ من الخيال، لو هيئ له من يُجَسِّد تفاصيله، ويَرْوي أحداثه، ويُتابع تحوُّلاته، لكان عبرة للمعتبرين، وموعظة وذكرى للغارقين في لجج الحياة الدنيا وزينتها، على الرغم من تنوع التعليم، وتعدد مناهجه، وانتشاره، وضَعْفِ مُخَرَّجاته.
هَذِه الأَجْيال الثلاثة تتسع لِكُلِّ الاحتمالات، وسائر القراءات، ويَصْدُق من أشاد بها، ومن سخر منها، لأنها جمعت المتناقضات، واستوعبت المتماثلات، وفاق الجادون من أبنائنا شباب الأمة العربية ببراءة الاختراعات، ولله في خلقه شؤون.
نَجْواي تلك نَبْشٌ لما آلت إليه أحوال الناس من التنافر والتقارب، والتواصل والتدابر والاختلاف والتنازع، والتوتر والاحتقان، والشك والارتياب، عبر قنوات التواصل والمواصلات، والقطيعة التي قد تصل حَدَّ الجفوة، مع تقارب المسافات بين الأشتات، وتواصلهم بالصوت والصورة. وهو تقارب أذاب الفوارق، وقضى على السمات، وكشف عن المضمرات، ولم يعد بمقدور أَحَدٍ أن يتقي من الآخرين تُقَاة. وزمن تلك سمته، وأحياء تلك أوضاعهم، يحتاجون إلى أدبيات مناسبة، وسلوكيات خاصة، وإلى ضوابط صارمة، تحول دون تَصَوُّحِ الماضي، الذي أصبح كهشيم المحتضر.
هذه الأدبيات، وتلك الضوابط يجب أن تناسب ما هيأ الله لهذه الأمة من تقنيات دقيقة، فَوَّتَتْ على المسَوِّف القدرة على الادعاء، والتضليل، والكذب، وفرضت الشفافية. فالمسْؤول وسط هذه الوسائط مُبْلَى السرائر، بحيث لا تخفى منه خافية.
لقد عاشت الأمم ردحاً من الزمن، لا يأتيهم بالأخبار إلا من يزودون، وقد يَغِبُّ الحدثُ، وتزول آثارُه، وهو بعد سِرٌّ من الأسرار. أما اليوم فالدنيا كلها بين يدي الإنسان كالمدينة الذكية، يقلب أشياءها كيف يريد، يَطَّلِعُ على تقلباتها، وأحداثها، ويكشف أسرارها، ويرى الممسكين بأزمة الأمور في حلهم وترحالهم، وجدهم وعبثهم، ولهوهم واحتشامهم. ويستدعي المعلومة الواحدة من مئات المصادر في لحظة واحدة، بالصوت والصورة، ومن ثم لا مجال للادعاء، ولا مكان للمزايدات، هذه الشفافية صعَّدت الخلافات وعمقت النفرة والارتياب، وتغير الزمن في أمدائه ومضمراتهِ.
هذا الزمن الغريب بكل ما يحمله من إمكانيات، لم يزد الإنسان إلا وحشة، ورهبة، وقطيعة، حتى لا يعرف الجار جاره، ولا القريب قريبه! ولم يزد المجتمعات إلا تفلتاً على الثوابت، والمسلمات!.
يتبع...