إن يوم عرفة من أفضل الأيام؛ وذلك لما انطوى عليه من الخيرات والإكرام، فقد قال بعض أهل العلم: إنه الشفع الذي أقسم الله به في قوله: (والفجر، وليالٍ عشر، والشفع والوتر)، فالشفع يوم عرفة، والوتر يوم النحر، وقيل: إنه الشاهد الذي أقسم الله به في قوله: (وشاهد ومشهود)، فقد جاء في «مسند الإمام أحمد» عن أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعًا وموقوفًا: «الشاهد: يوم عرفة». وقيل: «الشاهد: هو يوم الجمعة، والمشهود: هو يوم عرفة.
ومن فضائله أنّه يوم أكمل الله فيه دينه وأتم نعمته، ففي «الصحيحين» عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أيّ آية؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا)، فقال عمر، رضي الله عنه: «والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، عشية عرفة في يوم جمعة».
ومن فضائل هذا اليوم العظيم أنَّه يوم تكفر فيه الذنوب وتقال العثرات وهو يوم المباهاة، يباهي الله بأهل عرفة ملائكته، فعن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثمَّ يباهي بهم الملائكة، فيقول ما أراد هؤلاء؟».وفي «مسند الإمام أحمد» عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إن الله عزَّ وجلَّ يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: إنظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غبرًا».
هذا جانب من فضائل ذلك اليوم الكريم.
واعلم - وفقني الله وإياك إلى ما يحب ويرضى- أنه يشرع للحجاج إذا طلعت الشمس من يوم عرفة أن يتوجهوا إلى عرفة، ويسن أن ينزلوا بنمرة إلى الزوال أن تيسَّر لهم ذلك لفعله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإن لم يتيسَّر فيتوجهوا إلى عرفة، ولا حرج إن شاء الله، وعليهم أن يسيروا بسكينة ووقار وتلبية، فإذا وصلوا إليها تأكَّدوا من حدودها، ونزلوا فيها حيث تيسَّر لهم النزول من داخلها، ولا يلزمهم الذهاب إلى الجبل، ولا مشاهدته، ولا الصعود عليه، فإذا زالت الشمس صلوا الظهر والعصر جمع تقديم، مع قصر كل منهما إلى ركعتين، بأذان واحد وإقامتين، ويستحب للحاج في هذا اليوم المبارك أن يجتهد في ذكر الله ودعائه والتضرَّع إليه ورفع يديه حال الدُّعاء، وإن لبّى أو قرأ شيئًا من القرآن فحسن، ويستحب أن يكثر من قول «لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلٍّ شيء قدير»؛ لما روي عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنّه قال: «خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة، خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلٍّ شيء قدير»، فينبغي للمسلم الإكثار من ذكر الله بخشوع وحضور قلب، لاسيما في هذا اليوم العظيم، ويختار جوامع الذِّكر والدُّعاء.
بقي أن نعرِّف إخواننا الكرام ببعض الأخطاء التي يقع فيها بعض الحجاج في يوم عرفة؛ نتيجة لجهلهم بالحكم أو تساهلهم في تطبيق السُّنَّة.
ومن هذه الأخطاء: إن البعض يتأخر في خروجه إلى عرفة إلى قرب غروب الشمس وربما بعده أخذاً بأن الوقوف يكفي ولو ليلاً، وهذا صحيح، فإنَّ مَن لم يقف بعرفة إلا ليلة النحر يكفيه ذلك، ولكن إذا كان الإنسان موجودًا في الحرم أو في منى أو غيرها وتأخر إلى الغروب أو بعده بلا عذر فهذا استخفاف بالسُّنَّة، وقد حرم نفسه من خير عظيم.
ومن هذه الأخطاء: تكلف البعض بالذهاب إلى جبل عرفة وصعوده، واعتقاد أن الحج لا يتم إلا بذلك، وكل ذلك أمر غير مشروع، بل المشروع خلافه، ومثل ذلك جمع التراب من الجبل - جبل عرفة- وأسوأ من ذلك الصلاة فيه، فكل ذلك من الأمور المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا فعلها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولا أصحابه من بعده، وكان خيرًا لهؤلاء لو اشتغلوا بذكر الله والاستغفار والتعرض لنفحات الله في هذا اليوم المبارك.
ومن الأخطاء أيضًا: إن البعض عند الدُّعاء يدعو مستقبلاً الجبل، جبل عرفة، وإن استدبر لكعبة، وهذا خطأ عظيم.
ومن الأخطاء أيضًا: إنشغال البعض بالقيل والقال والمغالطات، ويفوتون على أنفسهم فرصة استثمار هذا اليوم بالأعمال الصالحة من الذكر والدُّعاء.
ومن هذه الأخطاء: عدم تأكَّد بعض الحجاج من أنَّه داخل حدود عرفة، فالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «الحج عرفة»، فالوقوف بعرفة ركن من أركان الحج، فمن لم يقف بعرفة فحجه غير صحيح.
ومن هذا الأخطاء: انصراف بعض الحجاج من عرفة قبل غروب الشمس، فإنَّ من فعل ذلك ولم يرجع إلى عرفة فيلزمه دم مع التوبة؛ لأنَّه ترك واجبًا من واجبات الحج.
ومن رحمة الله بعباده أن فضل يوم عرفة لا يقتصر على أهل الموقف، بل يمتد إلى غيرهم من المسلمين؛ ولذلك فقد شرع لغير الحاج الصيام هذا اليوم، وأجر الصائم كذلك بتكفير ذنوب سنتين، فعن أبي قتادة، رضي الله عنه، قال: سُئل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن صوم يوم عرفة قال: «يكفِّر السنة الماضية والباقية». رواه مسلم
أما الحاج فلا يشرع له الصيام في ذلك اليوم اقتداءً بالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وليتقوى بالفطر على طاعة الله عزَّ وجلَّ، ودعائه في هذا اليوم العظيم.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيَّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.