يقول الله تبارك وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}. لما ذكر سبحانه وتعالى الحج والعمرة في قوله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ}، بيّن اختلافهما في الوقت: فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، ووقت العمرة، وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الأشهر، ولم يسم الله تعالى أشهر الحج في كتابه؛ لأنها كانت معلومة عندهم، ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث؛ لأن بعض الشهر يتنزل منزلة كله.
قوله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}، أي: ألزم نفسه بالشروع فيه بالنية قصداً باطناً، وبالإحرام فعلاً ظاهراً، وبالتلبية نطقاً مسموعاً.
قوله: {فَلاَ رَفَثَ}، قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، وعكرمة، والزهري، ومجاهد، ومالك: الرفث: الجماع؛ أي: فلا جماع؛ لأنه يفسده، وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج، ورتّبوا عليه أربعة أمور أخرى، وهي: الإثم، ولزوم المضي فيه، وبدنة، والحج في العام القابل.
وقيل: الرفث: الإفحاش للمرأة بالكلام، كقوله: إذا أحللنا فعلنا بك كذا. من غير كناية. وقيل: الرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله. وقال أبو عبيد: الرفث: اللغا من الكلام، وأنشد:
ورب أسراب حجيج كظم
عن اللغا ورفث التكلم
قوله: {وَلاَ فُسُوقَ}، يشمل النهي عن إتيان جميع المعاصي حال الإحرام بالحج، كقتل الصيد، وقص الظفر، وأخذ الشعر، وشبه ذلك من السباب، والتنابز بالألقاب، والشتم، والغيبة، والنميمة، قال صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»، وقال أيضاً: «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الجهاد حج مبرور».
والحج المبرور: هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه، ولا بعده.
قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة.
قوله: {وَلاَ جِدَالَ}، الجدال وزنه «فِعال» من المجادلة، وهي مشتقة من الجدل وهو الفتل.
وقيل: هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض، فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب به الجدالة.
وقد اختلف العلماء في المعنى المراد به هنا، فقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: الجدال هنا أن تماري مسلماً حتى تغضبه، فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها.
وقال ابن زيد ومالك وأنس: الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك.
وقيل: الجدال هنا أن تقول طائفة: الحج اليوم، وتقول أخرى: الحج غداً.
وقال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة: حجنا أبر من حجكم، وتقول الأخرى مثل ذلك.
وعلى أي حال فإن الجدال أيّاً كان نوعه، والمماراة مهما كان شكلها، يجب الابتعاد عنهما، والتحرز منهما، والاشتغال بكل مفيد من أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وتعليم للجهال، وبيان خطأ المخطئين، والدعوة إلى الله سبحانه على بصيرة، وبالحكمة التي أمر الله بها، فطبقها رسوله صلى الله عليه وسلم، مع الموعظة الحسنة، والتزام الآداب الإسلامية والأخلاق الفاضلة والعالية، والتي تؤدي إلى الثمار والنتائج المطلوبة بسهولة ويسر، وإذا انضاف إلى ذلك الفهم والإدراك والوعي المطلوب كان ذلك العمل أكثر نفعاً وأعمق أثراً.
والذي يلحظ اليوم أن كثيراً من الحجاج -على اختلاف أنواعهم- بعيدون كل البعد عما يجب عليهم في حجهم، من ذكر الله، وخشوع وخضوع وتذلل وإخلاص لله، ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، فنجد بعضهم قد جعل الحج نزهة وفرجة، لأنه اتخذ الحج عادة كل عام، فيضيّق على عباد الله، ويرتكب المخالفات، ويترك السنن بل الواجبات، ولذلك فإنه قد يأثم أكثر مما يؤجر.
ومنهم من يعتقد أن الحج إنما هو الزحام والعنف والشدة، وامتهان حقوق إخوانه المسلمين، وخصوصاً الضعفة، فليس لديه رحمة ولا تقدير، ولا احترام، وكأنه لا يتعامل مع بشر,وهناك فئة أخرى جعلت الحج مكاناً لنشر أفكارهم ومعتقداتهم وأهدافهم السيئة والمنحرفة التي لا يقصد منها إلا النيل من الإسلام، وتأليب أعدائه عليه، والقضاء على العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومنهج السلف الصالح، بل إنهم يستغلون الحج لإبراز شعارات سياسية وطائفية عصبية، لا تمت للإسلام بصلة، ويستخدمون من أجل إظهارها كل الوسائل والأساليب، متناسين بذلك الزمان والمكان اللذين هم فيهما، متغافلين ومتجاهلين العبادة التي جاؤوا من أجلها، وكل هذا الذي ذكرنا لا شك أنه داخل فيما نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الجدال ونحوه.
وقد ختم الله سبحانه هذه الآية بقوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ}.
والمعنى: أن الله يجازيكم على أعمالكم، لأن المجازاة تقع من العالم بالشيء، وبهذا يحرّض الله جل وعلا عباده، ويحثهم على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الأخلاق والآداب مكان الفسوق والجدال، ومن هنا يكون فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد ما نهوا عنه.كما أمرهم سبحانه بالتزود الحسي والمعنوي للحج، فقال: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}, فتبين بذلك أن أفضل الزاد وخيره وأحسنه التقوى التي هي فعل المأمورات وترك المنهيات. ثم عقب الله ذلك ببيانه أن أصحاب العقول هم أولى الناس بالتقوى، فقال: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}، فخصهم بذلك وإن كان يعم الكل؛ لأنهم هم الذين قامت عليه حجة الله، وهم قبلوا أوامره، والناهضون بها، والمبتعدون عن نواهيه، والمحذرون منها.