في سبعينيات القرن الماضي استطاع مستشار الأمن القومي الأمريكي الشهير، ووزير خارجية أمريكا الأشهر: الدكتور هنري كيسنجر أن يفتح (كوة) في جدار القطيعة العقائدي الصلب والطويل بين (واشنطن) و(بكين).. بعد زيارته السياحية لها، ووقوفه على سورها العظيم وهو المولع ب (التاريخ) و(الحضارات)..
عبر ديبلوماسية جديدة، سميت فيما بعد ب (ديبلوماسية.. البنج بونج) أو كرة المضرب.. عندما شجع فريقاً من المحترفين الأمريكيين للذهاب إلى العاصمة الصينية لملاقاة نظرائهم فيها على طاولة (البينج بونج)، وبصرف النظر عن من كسب أو خسر في تلك اللقاءات الرياضية.. إلا أن النتائج السياسية لها كانت أسطورية.. ك (الخرافة)، فقد أحدثت انقلاباً إيجابياً في العلاقات بين البلدين.. كانت مقدمته هي (الاعتراف) ب (الصين الشعبية - الماركسية اللينينية) الذي ظلت تعارضه الولايات المتحدة لأكثر من أربعين سنة.. وكانت أولى نتائجه على أرض الواقع أن استردت (الصين الشعبية) مقعد عضويتها الدائم في (مجلس الأمن) بديلاً عن (فورموزا) أو ما يسمى ب (الصين الوطنية) التي كانت تحتله ب (القوة الأمريكية) دون وجه حق شرعي.
إن هذا الذي حدث في الماضي، جعل المتفائلين يرون فيه تماثلاً مع ما بدأه الرئيس (باراك أوباما) في مطلع هذا الشهر (يونيه).. عبر (خطابه) المفصلي بجامعة القاهرة: (الإسلامي) في عمومه، و(الفلسطيني) في خصوصه.. فمَن مِن الرؤساء الأمريكيين السابقين (اعترف) من قبل ب (تشرد) الفلسطينيين، وب (تحملهم لإذلال الاحتلال اليومي)، وب (حقهم المشروع للحصول على الكرامة وإقامة دولتهم المستقلة)، وكأنه يؤسس به ل(ديبلوماسية) جديدة.. هي (ديبلوماسية الخطابات.. الجامعية).. مقابل ديبلوماسية (البنج بونج) الاختراقية في زمانها، والتي جاءت تداعيات ما حدث بعد ذلك.. لتؤكدها، على المسرح السياسي.
* * *
فبعد أربعة عشر يوماً من خطاب الرئيس أوباما في جامعة القاهرة.. كان (بنيامين نتنياهو) رئيس الوزراء الإسرائيلي يقف في جامعة (بارايلان) الإسرائيلية قرب تل أبيب.. ليرد على الرئيس الأمريكي (أوباما)، ويقدم تصوره ل (الدولة الفلسطينية) - كما يراها.. هو - لا كما تصورها وأوجز ملامحها الرئيس أوباما، فكانت دولة (كرتونية)، تبعث على الضحك منها.. والتندر بها.. بأكثر من احترامها والتحفز لمناقشتها، تماماً كوقفته على منصة الجامعة رغم حماسة المصفقين له من أعضاء حزبه (الليكود)، وشركائه من حزبي (شاس) و(إسرائيل بيتنا).. الذين صفهم أمامه ليثبّتوا أقدامه، ويستقر بهم بصره الزائغ.. أمام عدسات الكاميرا، فيستقيم لسانه من عاميته الأسلوبية والفكرية التي يبدو أنها بقيت معه منذ أن كان (مقدم احتياط) في جيش الدفاع الإسرائيلي وإلى يومنا هذا.. حيث لم تفلح في إخراجه منها درجة (الماجستير) التي حصل عليها من جامعة فيلادلفيا الأمريكية، ليكون على منصة الجامعة: الرجل.. غير المناسب، في المكان.. غير المناسب..!! ف(دولته) الكرتونية هذه.. هي بدون عاصمتها (القدس الشرقية) باعتبار أن القدس تخص إسرائيل واليهود وحدهم!! و(هي دولة منزوعة السلاح إلى جانب إسرائيل. لكلٍ علمه ولكلٍ نشيده الوطني.. من دون جيش ومن دون سيطرة على الأجواء).. ولا يحق لها أن تعقد اتفاقيات أو تبرم معاهدات.. وهي تقوم وسط الكتل الاستيطانية الإسرائيلية، التي لم يعرفها العالم بدوله الصغرى والكبرى طوال أحقاب تاريخه.. على اتساعها، وعليها بداية (أن تهزم حركة حماس.. لأن إسرائيل لن تتفاوض مع إرهابيين يحاولون تدميرها).. وأنه (أي نتنياهو) يدعو بعد ذلك القادة العرب إلى لقاء معهم ل (صناعة السلام) سواء في (دمشق أو الرياض أو بيروت.. أو أيضاً القدس)..!!
* * *
بعد ستة أيام.. كان رئيس وزراء السلطة الفلسطينية المكلف الدكتور سلام فياض.. يقف في جامعة القدس ب (أبوديس)، ليعلق على خطاب أوباما و(رؤيته التي تتيح فرصة تاريخية لتحريك عملية السلام)، وهو يقدم في رده على خطاب (نتنياهو) صورة ل (الدولة الفلسطينية) كما يراها الفلسطينيون.. على أساس (مقررات الشرعية الدولية، ومقايضة الأرض بالسلام وتصفية الظاهرة الاستيطانية)، وكما قاربها الرئيس باراك أوباما.. نفسه، (دولة) تقوم على حدود.. ما قبل يونيو 67م وعاصمتها القدس الشرقية، دولة يتواصل طرفها في (غزة) مع قلبها في الضفة الغربية، (دولة).. يتمتع فيها اللاجئون في الشتات بحقهم في العودة (على أساس القرار الدولي رقم 194)، (دولة) تملك أجواءها وشواطئها. (دولة) سلام تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل. لا دولة (علم).. و(نشيد) كما يريدها (نتنياهو)!! وأنه يمكن قيام هذه الدولة.. خلال عامين، وهو يطلب من الفصائل والأحزاب الفلسطينية المتناحرة الآن، إيقاف جدلها لعامين حتى تتوحد الجبهة الفلسطينية.. في مواجهة مشوار السلام الذي يمكن القول بأنه بدأ فعلاً بخطاب الرئيس أوباما في جامعة القاهرة.
* * *
مع اكتمال مشاهد (ديبلوماسية الخطابات.. الجامعية) هذه.. والتي قد يضاف إليها خطاب رابع من هنا، أو خامس من هناك.. يكون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من أجل إقامة الدولة الفلسطينية الحقيقية لا (الكرتونية) المضحكة قد بدأ فعلاً.. بعد هذا التغير المنصف في وجهة نظر راعي عملية السلام الأول.. وأعني به الولايات المتحدة الأمريكية، ورئيسها الجديد: باراك أوباما.
وإذا كان (العرب).. عبر وزراء خارجيتهم قد بدأوا ومنذ الأربعاء الماضي اجتماعاتهم لبلورة موقف عربي مشترك حول ما جاء في تلك الخطابات وفي مقدمتها خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فإن السؤال يبقى: أين منظمة المؤتمر الإسلامي ودولها الواحدة والخمسون..؟ وأين مجموعة دول عدم الانحياز.. المؤثرة والفاعلة حقاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة..؟ بل وأين العرب من تحريك زعامات دول الاتحاد الأوروبي التي تدعي صباح/ مساء.. صداقتها، وتأييدها ل (الحق الفلسطيني) في الاستقلال وقيام دولته الوطنية؟.. للدخول في (ديبلوماسية الخطابات.. الجامعية) هذه، التي ستشكل في النهاية - حتماً - ضغطاً دولياً لإقامة الدولة الفلسطينية.. على الأقل تعويضاً عن تزاحمهم وتدافعهم - المثير للدهشة - لحضور (قمة) شرم الشيخ في الثامن عشر من يناير الماضي، التي ظن العرب (الطيبون.. دائماً) أنها من أجل نصرة (غزة) وأهلها، وإعمارها بعد (المحرقة) الإسرائيلية التدميرية التي تعرض لها أبناؤها ونساؤها وشيوخها وكل ما يملكون.. فظهر أنها لم تكن لذلك.. بل من أجل التأكيد على (مسألة التصدي لعمليات التهريب إلى قطاع غزة) و(اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالسيطرة على عمليات دخول الأسلحة إلى غزة)، وأنها - وهذه إحدى الكوارث - من أجل الاعتراف ب (فضل) إسرائيل في (قرارها بوقف إطلاق النار.. من جانب واحد).. بعد أن أعطتها أمريكا (بوش الابن).. أربعة وثلاثين يوماً لتدمير غزة ب (معارضتها) دعوة مجلس الأمن للانعقاد للنظر في هذه الحرب واتخاذ قرار بوقف إطلاق النار فيها..!!
على أي حال.. تبقى (الفرصة التاريخية) التي أشار إليها الدكتور فياض في خطابه بجامعة القدس.. تحتاج حشداً لكل الأصوات الممكنة (الصديقة ونصف الصديقة).. بدلاً من ترك الرئيس أوباما.. يواجه وحده آلة العداء (الجهنمية) للسامية، التي بدأت طلائعها تظهر في تلك الملصقات المضادة ل (أوباما) في شوارع تل أبيب، وبقية المدن الإسرائيلية أثناء إلقاء نتنياهو خطابه في جامعة (بارايلان)، وهي تصوره مرتدياً العقال و(الكوفية الفلسطينية)!! وقد كتب تحتها: (باراك أوباما المعادي للسامية والمعادي لليهود)..!!
* * *
فهل ستفلح في النهاية (ديبلوماسية الخطابات.. الجامعية).. هذه، التي اختطها الرئيس باراك أوباما في اختراق المكابرات والادعاءات الإسرائيلية الزائفة.. وصولاً إلى قيام دولة فلسطينية حقيقية..؟ كما أفلحت ديبلوماسية (البنج بونج) التي هندسها (كيسنجر) من قبل.. في وصول (الصين الشعبية) إلى مقعد عضويتها الدائم في (مجلس الأمن) بعد حرمان دام لأكثر من أربعين سنة..؟
إنني - وإن كنت لا أجد (يقيناً) يحملني على القول ب (نعم) أو (لا).. مع علمي وعلمكم بأن فلسطين (المحتاجة) غير الصين (القادرة)، فإنني أخشى - أن تصدق فينا (فلسطينيون وعرب) - رؤية أحد شعرائنا المقلين، وقد أدارت رأسه نشوة وسعادة تلك النبرة المنصفة غير المتوقعة تجاه الفلسطينيين.. في خطاب الرئيس أوباما، فكتب - ما.. معناه - مشبهاً حالنا عرباً وفلسطينيين.. بحال أولئك الأطفال الذين تجمعوا في إحدى ليالي الشتاء القارس حول والدتهم المعدمة، وهم يتصايحون في طلب العشاء.. بعد أن استبد بهم (الجوع)، فهداها ذكاؤها.. لأن تشعل حطب الموقد، وأن تضع فوقه إناءً مملوءاً بالماء.. بداخله كمية من الحصى، ثم جلست أمامه، وأخذت تقلب ما بداخله.. حتى ينضج (!!).. بينما صغارها ينتظرون إلى أن ناموا (جياعاً)، بطمأنينتهم..؟!