* العيس والعيص.. بكسر العين في الاثنتين. أما العيس؛ فهي الإبل، وأما العيص؛ فهي الغابة، والشجر الملتف، والنفس والحركة والقوة، ومنبت خيار الشجر إذا تدانى والتفّ، مثل السّدر والعوسج والأذخر.
|
وعيص بمعنى صدق. قال بذلك ابن منظور والزبيدي وياقوت وغيرهم. والعيص في عرف أهلها بمعنى: (الشجر الملتف النابت بعضه في أصول بعض).
|
* والعيص مركز إداري من أعمال محافظة ينبع التابعة لمنطقة المدينة المنورة. يقول أهلها: بأنه أكبر المراكز هناك. والعيص على اسم واد من شمالي محافظة ينبع البحر بحوالي 150 كيلاً، وغرب المدينة المنورة بحوالي 180 كيلاً، وشرق محافظة أملج بحوالي 80 كيلاً، وينحدر من أعالي الجبال العالية في سلسة جبال السروات ما بين أملج والعيص، والجبال تحيط بالعيص من جهاتها الأربع، وتبلغ مساحة العيص 2863 كيلاً مربعاً تقريباً، وهي تقع على طريق تجارة قريش بين مكة والشام فيما قبل الإسلام، وهو المسمى بطريق (مأرب بتراء)، وترتفع عن سطح البحر بحوالي 2200 متر، وسكان العيص من قبيلة جهينة .. القبيلة العربية الشهيرة منذ القدم، والمعروفة في جزيرة العرب، ولها فروع في مصر والسودان، وفي العيص آثار مشهورة منها: حصون حجرية، وقلاع تاريخية، ومنها بركة شعيب، وسوق عورش، إلى جانب شهرتها في المنتجات الزراعية والحيوانية وغيرها، وفيها من السكان حوالي 60 ألف نسمة.
|
* تعرضت العيص مؤخراً، إلى (هزات ارتدادية)، نتيجة لهزات أرضية بعيدة، وظهرت فيها تشققات بركانية، فهي تقع في منطقة بركانية معروفة منذ أزمنة بعيدة، مثلها مثل كثير من الأمكنة في غرب ووسط الجزيرة العربية، وعلى إثر ذلك، جرى إخلاؤها من سكانها تحسباً لما هو أسوأ، وخوفاً عليهم من هزات ارتدادية أقوى، أو ثوران لبراكين ظلّت خامدة آلاف ومئات السنين، وحتى هذه اللحظة، يعيش أكثر من ستين ألف نسمة، في أمكنة بعيدة عن دورهم ومزارعهم ومراعيهم، والكل منهم ينتظر يوم العودة إلى مسقط رأسه بفارغ الصبر، ولعل الكسرات الجهنية التي ذاعت مع الأزمة، تعبِّر عن تعلق أهل العيص بالعيص، وشغفهم بيوم .. بل بساعة العودة القريبة إن شاء الله. هذا (ذيب جهينة) يقول في واحدة من الكسرات الشعرية المشهورة هناك:
|
بعد فراقك مثل مسموح |
ما لقى علاجه ولا طبيبه |
يا (عيص) بفراقك أنا ملزوم |
غير حبك أنا وش لي به ..؟ |
* ويقول شاعر آخر اسمه (عبد المحسن اليوبي)، وكأنه يوظف حادث العيص في التعبير عن شعوره:
|
أنا جيل حطّمه زلزال |
وثارت براكين في قلبي |
ما تنطفي بالبحر لو سال |
إن كان ما هداه لي ربي |
* اهتمت الدولة بسكان العيص على أعلى مستوى، وفي انتظار عودة العيصيين إلى مرابعهم التي وُلدوا وعاشوا فيها، فأحبّوها مثل حبهم لأبنائهم وأكثر، يظل السؤال الأهم: ماذا بعد عودة أهالي العيص إلى العيص.
|
* إنه - وبغضّ النظر عن سلامة إجراء الإجلاء الذي تم، لأنّ المختصين في علم الجيولوجيا يقولون بعدم وجود خطورة تذكر، لا من جهة هزات ارتدادية، ولا من جهة براكين قد تحدث - إلاّ أنّ هناك أكثر من مشكلة تبرز الآن على السطح، ولا بد من البحث في إيجاد سبل لمعالجتها.
|
* أولى هذه المشاكل - من وجهة نظري - هي مشكلة نفسية بحتة، فالستون ألف مواطن، الذين روعهم الموقف العصيب، لن يعودوا إلى دورهم في العيص، ويعيشوا فيها هكذا مثلما خرجوا منها. هناك حالة نفسية مؤكدة سوف يعاني منها كثير من الناس، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، ولا بد من تهيئة الحل النفسي الاستباقي قبل موعد العودة.
|
* مما ظهر على السطح بعد الحادث، النقص الحاد في الخدمات الصحية والاجتماعية والبلدية وغيرها، التي كان ينبغي أن تتوفر عليها العيص منذ سنوات مضت، لكنها - كما يقول أهلها - ظلّت في ذيل المراكز المخدومة في محافظة ينبع وفي منطقة المدينة، ومع أنها واسعة المساحة وكثيرة السكان، وتستحق أن تتحول إلى محافظة، فقد ظلّت على مرتبة مركز إداري لا يتمتع حتى بما تتمتع به كثير من المراكز المماثلة. يكفي أن نعرف هنا، أن ستين ألف مواطن في العيص، يضطرون إلى السفر 150 كيلاً إذا احتاجوا للخدمة المدنية والجوازات، واحتاجوا لمكتب العمل والضمان الاجتماعي وخلافه، من المرافق الرسمية والأهلية غير الممثلة في مركزهم النائي، ونسبة البطالة بين شبابها تبلغ (60%)، فالعيص إذن .. تحتاج إلى التفاتة حقيقية، ولتكن هذه الالتفاتة، جزءاً من الحل النفسي المنتظر لعودة سكانها، بحيث يشعر كل عيصي عائد إلى داره، أنه محطّ اهتمام كبير من الدولة والمجتمع، وأنه سوف يجد المصحة اللائقة، والتعليم العام والعالي، ومعهد التدريب، والخدمات البلدية الجادة، والطرق والماء والكهرباء والهاتف، وأنه سوف يتمتع بضمان اجتماعي شامل، ومؤسسات تهتم بالأنشطة الثقافية والفنية والرياضية لشبابه.
|
* هناك قضية لا تخص العيص وحدها، ولكن العيص تصر عليها الآن وبإلحاح تام، ألا وهي مسألة مراعاة حالات الهزات الزلزالية والبراكين، وتوطين ثقافة التعاطي مع هكذا ظواهر طبيعية في المستقبل .. لماذا لا تخضع الإنشاءات العمرانية للعمارات والطرق والجسور وغيرها، لمواصفات هندسية فنية تتحمل آثار الهزات الارتدادية والتشققات البركانية.
|
* النمو القادم في العيص على وجه خاص، في شكله البلدي والعمراني، لا بد وأن يخضع لمواصفات من هذا القبيل، حتى لا نضطر إلى إخلاء وتهجير السكان عند حدوث حالات بركانية أو اهتزازية في المستقبل.
|
* وفي السياق ذاته، لماذا لا تكون هناك هيئة عليا على مستوى منطقة المدينة المنورة، تتولّى معالجة قضية العيص من كافة جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، فهي قضية ملحّة، ولماذا لا تكون لدينا هيئة للأزمات أعلى منها على مستوى التراب الوطني، تكون دائمة وقائمة، وتتخصص في مباشرة كل أزمة طارئة، بما تتوفر عليه من صلاحيات وحلول استباقية عاجلة لكل أزمة تظهر فجأة؟.
|
* توجد أكثر من عقدة في قضية العيص هذه، قد تبدأ بالعقدة النفسية، ولكنها لن تفكك وتحل بكلها، حتى تحظى العيص ببرنامج شامل للتنمية، يستهدف الإنسان والمكان معاً، فكثير من شباب وشابات العيص، ما زال يذهب بعيداً عن العيص، من أجل التحصيل العلمي، وحتى البحث عن لقمة العيش التي لا تتوفر في مركزه.
|
* لقد أحسن الزميل والصديق الأستاذ مقبول بن فرج الجهني، الصحافي والكاتب المعروف، عندما عقد في داره في جدة قبل أسبوعين، حلقة للنقاش حول مستقبل العيص.
|
كنت سعيداً بالحضور والمشاركة في هذه الحلقة، مع فضلاء من أبناء جهينة، الذين ثمّنوا دور الدولة البنّاء في احتواء الموقف، ثم طرحوا على بساط البحث، أفكارهم ورؤاهم لما يمكن عمله في المستقبل لتطوير وتنمية العيص.
|
* من يستمع إلى أبناء جهينة في شأن العيص، فسوف يقف على صورة ما حدث بالفعل، وصورة ما يتطلّع إليه المواطن هناك وما يرجوه .. إنه الخبر اليقين .. فعند جهينة، الخبر اليقين.
|
|