كيف يمكن أن يتحوّل طفل وديع بريء إلى شاب مريع ومجرم يفتك بأرواح الأبرياء؟ سؤال حيَّر المحقّقين وشرطة تكساس على مدى الأربعين سنة الماضية وإلى يومنا هذا، فإن جواب هذا السؤال، الذي كان سببه الشاب (تشارلي جوزيف وايتمان)، لم يعرف حتى الآن. فمن هو هذا الشاب الغريب؟ الذي أفزع سكان تكساس في 90 دقيقة كان ضحيتها 14 قتيلاً وأكثر من 24 جريحاً.
بداية متعثرة في كنف عائلة متخبطة
ولد تشارلي وايتمان لعائلة متوسطة في الرابع والعشرين من يونيو سنة 1941م. وترعرع في بيتٍ كان محط حسد وأنظار الحي بأكمله، ولم يكن تشارلي فتاً سيئاً، بل على العكس من ذلك فقد كان من الطلبة المميزين في المجالين الأكاديمي والرياضي. ففي سن صغيرة جداً كان قد تعلم عزف البيانو وأصبح من فتيان الكشافة المميزين. ولكن ذلك البيت الذي نشأ وتربى فيه يحوي الكثير من الأمور الغامضة التي لم يدر عنها حسادهم في الخارج. فقد كان أبوه عنيفاً جداً في تعامله معه وكذلك الحال مع أمه وإخوته. وطالما صبر تشارلي على معاملة أبيه له طوال تلك السنين حتى شارف ذكرى ميلاده الثامن عشر. وفي أحد الأيام رجع تشارلي إلى منزله ثملاً بعد أن قضى الليل كله في حفلة صاخبة مع زملائه فقابله والده بالضرب والركل وألقى به في حوض السباحة حتى كاد أن يلقى حتفه غرقاً. كانت هذه الحادثة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فأدرك تشارلي أن وقت رحيله قد حان فانضم إلى البحرية الأمريكية هرباً من عنف وقسوة أبيه.
صقل وتطوير المواهب القتالية
لم يمض وقت طويل منذ تسجيل اسمه في لائحة المتطوعين للخدمة حتى انضم تشارلي إلى جيش البحرية الأمريكية، حيث جاء تعيينه في خليج غوانتنامو بكوبا وأخذ يتعلّم أسس فنون القتال واستخدام الأسلحة النارية بأنواعها.
ونظراً لموهبته الفطرية وسرعة تعلمه فقد حاز على الكثير من الإعجاب والأوسمة الفخرية خلال فترة تدريبه حتى إن الجيش قام بإرساله في منحه دراسية إلى جامعة تكساس لإكمال تعليمه الجامعي.
بدأ تشارلي في الجامعة بداية جيدة في تخصص الهندسة وكان من الطلبة المتفوقين وكان ذلك في عام 1961م في الخامس عشر من شهر سبتمبر. تلك الفترة شهدت العديد من الأحداث الكبيرة في حياة تشارلي فقد خرج لتوه من نظام عسكري صارم لا يستهين بأي غلطة شبيه إلى درجة كبيرة بما كان يعانيه في منزل أبيه. ولكن في الجامعة وجد حياة الترف والرخاء وسرعان ما تخاذل في دراسته وبدأ هذا الخذلان يؤثّر بشكل مباشر على درجاته. وفي وسط تعثره ذلك تزوّج بفتاة تدعى كاثي ليسنر سنة 1962م وأدمن على القمار في المقاهي الليلية ونتاج ذلك أن قامت البحرية الأمريكية بإلغاء منحته الدراسية وسحب المعونات منه وأقامت محاكمة عسكرية بعد علمها بتعاملاته غير المشروعة مع القمار. وكان حكم المحكمة بديهياً فقد سحبت منه كل الأوسمة الشرفية التي كان قد حاز عليها وإرساله مباشرة إلى ثكنة عسكرية في نورث كارولاينا.
طريق العودة ونسيان الماضي
لم تعد حياة البحرية الأمريكية المكان الذي يوده تشارلي فطلب من أبيه أن يقلّل مدة خدمته لترك الجيش وبالفعل قام أبوه بفعل ذلك وترك الجيش عام 1964م. لم يعد تشارلي يقوى على فعل المزيد وبدأت حياته النفسية تتدهور شيئاً فشيئاً وبدأ يندم على أخطائه السابقة وتفويته للعديد من فرص النجاح قام بقبول وظيفة في نفس جامعة تكساس التي درس بها بالإضافة إلى قبوله مهمة رئيس الكشافة لطلبة الجامعة هناك. وكان يهدف من هذه الخطوة إلى إثبات رجولته أمام والده وإعالة نفسه وزوجته التي كانت تعمل كمعلمة في إحدى المدارس المحلية. ومع مرور الوقت بدأت حالة تشارلي النفسية تزداد سوءاً فلم يكن راضياً عن نفسه ومرتبه الشهري الذي يقل بكثير عن ما تتقاضاه زوجته من وظيفتها، وما زاد الأمر سوءاً خبر انفصال والديه عن بعضهما بعد علاقة طويلة تخللها العديد من المواقف السيئة والكره المتبادل. وكان قد سئم الهدايا الثمينة والنقود التي يتسلّمها من أبيه مما أوصله إلى حافة الهاوية. وهذا الأمر لفت انتباه زوجته التي رجته أكثر منه للذهاب إلى إخصائي نفسي وحضور جلسات علاج عله يعود كالسابق. وفيما كان يحضر جلسات العلاج مع الإخصائي الجامعي هيتلي فقد أفصح له عن حلم يراوده منذ القدم. وفحوى حلم تشارلي هو أن يقوم بإطلاق النار على الناس من على برج عال. ولكن هذا الحلم البشع لم يعيره السيد هيتلي اهتماماً كبيراً، حيث إنه لم يدرك بأن هذا الحلم قد أفصح عنه تشارلي لعدة أشخاص ولكنه في كل مرة لم يؤخذ بجدية. وبعد عدة جلسات قام تشارلي بالعودة إلى عمله ولكن العلاجات التي كان يأخذها أثرت على نظام نومه وجعلته يركز يوماً بعد يوم على تحقيق حلمه الدموي.
انطلاق شرارة الشر
في ظل اضطرابه النفسي والعقلي تحول تشارلي من شاب يعاني من مشاكل نفسية معتادة إلى مهووس قرَّر بين يوم وليلة تنفيذ حلمه الشنيع، وبدأ العمل على ذلك سنة 1966م، وتحديداً في آخر يوم من شهر يوليو حين قام بشراء منظار عسكري وسكين وبعض التموينات التي رأى أنه في حاجة لها. ثم توجه إلى خزانته العسكرية التي احتفظ بها من خدمته العسكرية واستعار بعضاً من مسدساته وأكثر من بندقية بالإضافة إلى طلقات عديدة لكل سلاح منها. وبعد أن قام بتجهيز تلك الأسلحة وضعها في السيارة وأخفاها لحين ساعة الصفر. بعد ذلك جلس يكتب رسالة شرح فيها أسباب فعلته وأن ما دعاه إلى هذا هي الأفكار المخيفة التي تتراءى إليه من حين إلى حين وطلب في رسالته من المسؤولين القيام بتشريح جثته بعد موته ومعرفة مصدر هذه الأفكار والهواجس التي دفعته إلى الجنون. ومن ثم قام بشرح العملية وأول ما تطرق له هو نيته قتل زوجته وأمه لتخليصهما من عذابهما الدنيوي. بعد ذلك توجه ليقل زوجته من مدرستها وعند عودتهما للبيت قام بالاتصال على أمه وسألها إذا كان بالإمكان أن يقوم بزيارتها في شقتها التي انتقلت لها حديثاً بعد تركها لأبيه. ولكن لسبب غير معروف لم توافق زوجته على الذهاب معه فذهب وحيداً وعند دخوله إلى شقة أمه قام بخنقها بلي مطاطي ومن ثم طعنها في صدرها عدة طعنات لتلفظ أنفاسها الأخيرة على يد ابنها الخائن. وقام بكتابة رسالة جديدة يوضح فيها تحقيقه لخلاص أمه من عذابها وقام بتعليقها على باب شقتها.
ثم عاد إلى البيت ليجد زوجته كاثي نائمة فقام بطعنها وهي نائمة عدة طعنات حتى ماتت ثم ركب سيارته وتوجه إلى مبنى الجامعة الإداري الذي كان يعلوه برج مرتفع. وبواسطة بطاقة الهوية التي كان يحملها بحكم عمله هناك تسنى له أن ينقل عتاده العسكري إلى سطح البرج وتجهيز نفسه للقيام بحلم طالما راوده. فلبس لباساً أزرق فضفاضاً ليكون مموهاً ويصعب على الآخرين تحديد مكانه بحكم خبرته العسكرية في التدريب مع البحرية. وبينما هو يتمركز مرَّ به زوجان ولوّحا له من عند خانة الاستقبال للبرج ومن ثم خرجا من هناك ولم يكونا يعلمان بأنهما محظوظين عندما واجها قاتلاً شرساً ولكن المشرفة على مبنى البرج في ذلك اليوم لم تكن أسعد حظاً فبينما كانت إيدنا تاونسلي تتفقد سطح البرج قام تشارلي بضربها بقفا البندقية خلف رأسها وجرها خلف أحد الكنبات لتلفظ أنفاسها الأخيرة متأثرة بجراحها. وبدأ بعد ذلك مسلسل القتل فقد كان يختار ضحاياها عشوائياً حتى صارت محصلة من قتل 14 شخصاً وأكثر من عشرين جريحاً بينهم أشخاص إصاباتهم خطيرة. وكان يتنقل على كل جهة من البرج فتارة في الشرقية وتارة في الشمالية وهكذا يتصيد بني البشر ليلبي حلمه البشع. حتى أتت الشرطة وحاصرت المكان وما يدل على مهارة تشارلي هو إصابته لأحد أفراد الشرطة بينما كان يراقبه من خلال فتحة تمثال أسمنتي لا يتجاوز اتساعها 6 إنشات ليقتله تشارلي من على بعد 500 متر بإصابة مباشرة لقي حتفه بها ولم تدم المواجهة طويلاً حتى حاصره أفراد الشرطة وقتلوه بمشاركة العديد من المواطنين الذين استلوا أسلحتهم وساعدوا الشرطة في مواجهة سفاح برج تكساس ليسدل الستار على سيرة سفاح مختل آخر من بين ملفات المجرمين. ولا يزال ذلك البرج مزاراً للسياح وقد أقفل أكثر من مرة بسبب كثرة من ينتحرون من فوقه. حتى أعيد افتتاحه 1999م وزوّد بحراسات مشددة لتلافي هذا الأمر.