* إعداد - محمد رضا
كالكثير من شؤون الحياة، نأخذ كل شيء كما لو أنه تحصيل حاصل. ترفع يدك من ركبتك إلى وجهك. في كل درجة من درجات ارتفاعها هناك شكل مختلف يقع. وفي كل مرة، تقع تلك الحركة في زمن مختلف. وفي الزمن الواحد هناك مقياس. قد تكون الحركة عادية، تأخذ ثانية، أقل من عادية تأخذ نصف ثانية. أكثر من عادية تأخذ - اذا أردت - خمس دقائق. ربما تتوقف في منتصف الطريق بين الركبة والرأس. قد تبقى هناك.
هل هناك ما يستحق التفكير في حركة يد عادية نقوم بها كل يوم؟ أساساً لا، لكن التفكير في الوجود لابد أن يؤدي إلى ملاحظة مثل تلك المسلّمات. وإذا ما توقفت عندها بإمعان وجدتها تفتح أبواباً كثيرة. بعضها يؤدي إلى أروقة فيها أبواب أكثر. قد تعود إلى حيث انطلقت وقد تضيع، لكن في فترة ما ستجد نفسك تفكر بين هذه الحركة والحركة الشبيهة التي يقوم بها الممثل. أنت تقود السيارة، هو يقود السيارة. أنت تتعجب برفع حاجبيك، هو يفعل ذلك. أنت تحب، تكره، تنفعل، ترضى، تغضب، أي شيء، كل شيء. وهو ايضاً. والحركة العاكسة حتى ولو كانت مختلفة عنك، فهي ليست مختلفة عن جارك الذي يجلس قريباً منك، أو الذي خلفك مباشرة. ذلك الذي لا تشعر بوجوده إلا إذا كان يضرب الكرسي بركبتيه كل قليل. اليوم نشاهد الفيلم عملاً كلياً جامعاً واحداً. لكنه لا يزال، في واقعه وأساسه، ومثل حركاتنا الاعتيادية، مجموعة من الحركات الجزئية المفصلة في زمن جزئي مفصل بحد ذاته.
عودة إلى تاريخ الحركة؟
تلك الرسومات المكتشفة من العصر الحجري في إسبانيا وفرنسا والتي توحي بأن راسميها كانوا يرسمونها لجمهور متابع ويحكون عبرها قصصا، ألم تكن بداية استخدام التعبير المصوّر؟ ماذا عن الفانوس السحري العربي؟ ثم الأسطوانة التي توهمك بالحركة؟ و(البيب شو) ؟ ماذا عن كل اختراع سابق للإختراع السينما في مرحلة أتفق المؤرخون الغربيون على تسميتها بمصطلح سينما ما قبل السينما؟
طبعا السينما الصامتة جاءت ومضت ووضعت أسسا كثيرة لا تزال السينما إلى اليوم تعتمدها. في الحقيقة كل ما قامت به السينما منذ أول تنظيم إلى لها وحتى اليوم هو إضافة ركام من الإبتكارات على الأرضية الأساسية التي من دونها ليست هناك سينما وليست هناك ابتكارات: الصورة المتحركة. الشاغلة للعين. للقلب. للمشاعر. التي تبدأ بحركة وتنتهي بحركة. لا البداية حتمية ولا الحركة نهائية. كله متواصل.
والسينما هي الفن الوحيد الذي تستطيع أن ترى فيه حركة بائدة لا زالت قادرة على معاودة ذاتها بقدر ما تريد من المرّات. رغم ذلك هي حركة تمّت مرة واحدة وفي اللقطة المحددة لها والتي اختيرت للعرض على الشاشة. في المسرح، كل عرض مسرحي يحتل زمنا مختلفا. في السينما العرض الآلي فقط هو الذي يحتل زمنا مختلفا، أما الحركة التي في الفيلم، وكما الحركة في الحياة، تتم مرة واحدة. تمضي مع مضيها. بالطبع يمكن تقليدها دائما وتكرارها دائما، لكن تلك التي قام بها باستر كيتون أو قبله أو بعده، كانت حركة واحدة ولدت وانتهت.
مرآة بحجم العالم
السينما أيضا هي الفن الوحيد الذي تستطيع أن ترى فيه الموتى أحياء إذا ما كانت حركة الشخص الأول الذي خرج من مصنع الأخوين لومبيير سنة 1895 ولدت وانتهت في لحظة الإقدام عليها، فإن صاحب الحركة -الذي لابد أنه مات (ربما بعد يوم أو بعد 80 سنة)- يمكن أن يعاود العيش في كل مرة يُتاح لك مشاهدة الفيلم. ذات مرة شاهدت (خروج العمّال من المصنع) الذي يصوّر خروج عمّال أحد المصانع في باريس، بعضهم بدراجاته الهوائية، وبعضهم سيرا على الأقدام، بعضهم نساء بعضهم رجال (وأحدهم مع كلبه). بعضهم اتجه يمينا وبعضهم يسارا، شاهدته أكثر من عشر مرات في جلسة واحدة. تصوّر كل واحد من هؤلاء لابد أنه مات إلى أن وصل الفيلم اليّ، لكنه لا يزال يتحرك أمامي عاكسا كيف كان حقيقة. هنا أنت لا تسمع عنه ولا تفرأ عنه. بل تراه.
الممثلون كذلك. كلما شعرت بحنين لمشاهدة عبد الوارث عسر في الرجل الذي (مر من هذا الطريق) والذي يمر به محمود المليجي في فيلم (الأرض)، تستطيع أن تفعل ذلك (لو كان لديك الشريط أو لو قررت أن تستغل فرصة عرضه على محطة تلفزيونية). اللحظة التي انتهت بالنسبة اليهم استمرت بالنسبة الينا جميعا. وكل ذلك الخضم من الأفكار والملاحظات والدلالات التي وردت هنا أو لم ترد هو ليس سوى صفحة واحدة من صفحات ذلك الشيء الكبير الذي أسمه سينما. العاكسة الوحيدة المشابهة للحياة كما لو أنها مرآة بحجم العالم بأسره وكل من فيه.