|
بين "الجزيرة" ويوم الثلاثاء
|
للجزيرة الصحيفة مع يوم الثلاثاء مواقف كثيرة بدأت وربما أنها لم تنته بعد..
ففي مثل هذا اليوم صدر أول عدد من صحيفة الجزيرة الأسبوعية..
وفي مثل هذا اليوم ومع بدء صدور "الجزيرة" يومياً قررنا أن يكون احتجابها عن الصدور يوم الثلاثاء من كل أسبوع.
وعندما عقدنا العزم على إصدار هذه المجلة مجلة الجزيرة اخترنا لها يوم الثلاثاء من كل أسبوع موعداً للصدور..
* * *
هل هي مصادفة..؟
أم أن ذلك تم بتخطيط مسبق..؟
في جانب من الصورة لم تكن مصادفة عابرة..
وفي الوجه الآخر من الصورة لم تكن محصلة لنتائج علمية مبنية على دراسات لتحديد هذا اليوم كخيار دون غيره..
* * *
لكن الثابت أن يوم الثلاثاء بالنسبة ل "الجزيرة"..
هو يوم الصدور..
مثلما هو يوم الاحتجاب عن الصدور..
مثلما أنه يمثل أيضاً العودة إلى الصدور بعد الاحتجاب..
لكن هل انتهت العلاقة الحميمة بين صحيفة الجزيرة ويوم الثلاثاء بصدور مجلة الجزيرة..؟
* * *
إن ما يهمنا تحقيق ما يرضي القارىء..
بأعمال صحفية مميزة..
في كل أيام الأسبوع..
وعلى مدار العام..
وبإيقاع واحد..
مع اعترافنا بأن هناك مسافة كبيرة لبلوغ هذا الهدف..
وأن أمامنا الكثير لإنجاز استحقاقات هذا التصور..
* * *
وهذه المجلة مجلة الجزيرة جزء من هذا الطموح..
إلى ما هو أفضل إن شاء الله..
فهي خطوة على الطريق الطويل..
ضمن وثبات أخرى نعدكم بها..
وهو وعد وعهد..
قطعناه على أنفسنا..
الزملاء وكاتب هذه السطور..
خالد المالك
|
|
|
أكمل قواعد "اللعبة الماكرة" مع جون كيندي كيف صنع بن غوريون السلاح النووي الإسرائيلي بشكل غير قانوني؟ (22) تبنى سياسة "النفس الطويل" لتفادي مواجهة أمريكا والالتفاف على "القضية النووية"
|
رأينا في الحلقة الماضية كيف اقنعت اسرائيل حلفاءها في الغرب ان "خيارها النووي" وحده القادر على منع نشوب الحرب في المنطقة وانها الضمانة الوحيدة لأمن الدولة العبرية.. وفق فلسفة تقوم على ان تأمين السلم يأتى من خلال القوة.
لقد تمكن بن غوريون (كما رأينا) من امتصاص تداعيات سياسته النووية لدى حليفة الدولة العبرية الاهم (الولايات المتحدة) وامتص معارضتها لبناء "ديمونة" حتى ان واشنطن أصبحت تردد ان المفاعل الذي أنشيء لاغراض سلمية فقط لا يمكن استخدامه لما هو ابعد من ذلك.. هكذا وبفضل حماية حلفائها الغربيين نجح بن غوريون في الهروب ب "ديمونة" الى خارج نطاق "الحظر النووي"، ولم يعد يشعر بأي قلق للاستمرار بمشروعه النووي حتى النهاية.
لقد شكل ذلك التحول في الموقف الأمريكي من المعارض ل "ديمونة"، الى الشريك غير المباشر ثانيا، والى الشريك المباشر والداعم لمشروعه النووي في مرحلة لاحقة.. البداية لما اصبح يعرف عن الولايات المتحدة فيما بعد بسياسة الكيل بمكيالين، نجد في هذه الحلقة كيف اطلق بن غوريون لمشروعه العنان وقرر المضي به الى اهدافه النهائية.. وكيف تمكن بنجاح من اكمال قواعد لعبته الماكرة دون ان يسبب أي حرج لحلفائه المعارضين لانتشار الاسلحة النووية.
تبنى سياسة "النفس الطويل" لتفادي مواجهة أمريكا والالتفاف على "القضية
النووية"
في نيويورك في سبيل حظر انتشار الأسلحة النووية كان لدى جونفيتز جرالد كيندي التزام أدبي ووجداني عظيم تجاه هذا الأمر. وقد أعرب كيندي عن إحساسه الشخصي بضرورة النظر بعين الاعتبار إلى مسألة الانتشار سواء من الناحيةالحكومية أو على المستوى الشخصي. وعندما أصبحت فرنسا العضو الرابع بالنادي النووي في فبراير 1960 أصبح السؤال الذي واجهه كيندي هو : من العضو القادم؟.
في إحدى مقولاته التي لا تنسى وصف كينيدي هواجسه النووية قائلا: "يلازمني على المستوى الشخصي إحساس بأننا ما لم نحرز نجاحا في هذا السبيل فبحلول عام 1970 ربما يصبح لدينا 10 قوى نووية بدلا من 4، وبحلول عام 1975 سيكون هناك ما بين 15 و 20 قوة نووية. إنه ليفزعني تصور ما سيقوم به رئيس الولايات المتحدة في السبعينات إذ سوف يكون لزاما عليه أن يواجه عالما يوجد فيه ما بين 15 و25 دولة يحتمل أنها تمتلك تلك الأسلحة".
ومضى الرئيس الأمريكي الأسبق قائلاً: "إننى أعتبر ذلك خطرا داهما و مجازفة كبرى". لقد بدا الالتزام الشخصي الذي قطعه كيندي على نفسه واضحا خلال تعامله مع القضية النووية الإسرائيلية بعد أن تولى منصبه في 20يناير 1960م. فبعد هذا التاريخ بعشرة أيام فقط قدم وزير الخارجية دين راسك للرئيس مذكرة سرية من صفحتين حول الأنشطة النووية الإسرائيلية وكانت تلك المذكرة تشير إلى التأكيدات القاطعة التي تم استخلاصها من بن جوريون بأن إسرائيل ليست لديها أية خطط لتطوير أسلحة ذرية.
بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة في القضية النووية الإسرائيلية حددت المذكرة أن تلك المصالح تتعارض تماما بصفة عامة مع نشر الأسلحة النووية وبصفة خاصة مع احتمال قيام السوفيت بوضع أسلحة نووية على الأراضي العربية ردا على امتلاك إسرائيل لتلك الأسلحة. كما أشارت المذكرة إلى أن تأكيدات فرنسا وإسرائيل وتطميناتهما بدت مرضية على الرغم من وجود عدد من الأسئلة الثانوية التي مازالت تحتاج إلى إيضاح تلك الأسئلة الثانوية متعلقة على ما يبدو بعملية التفتيش على مفاعل ديمونة و بملكية البلوتونيوم وهي القضية التي ثارت بالفعل خلال النقاش الذي دار بين بن جوريون وبين السفير ريد. أضافت المذكرة السرية قائلة: في اللحظة الراهنة نحن نشجع أن تسمح إسرائيل لعلماء متخصصين من الولايات المتحدة أو من أي قوة صديقة بزيارة مبنى ديمونة.
مسألة لافون
في إسرائيل كانت ما تسمى ب "مسألة لافون" لازالت دون حل ومسألة لافون هي الفضيحة الداخلية التي نجمت عن فشل عملية سرية كان من المقرر القيام بها في مصر في يوليو من عام 1954. أعقبها قيام بنحاس لافون الذي حل محل بن جوريون كوزير للدفاع عام 1954 بتوجيه اللوم إلى المخابرات العسكرية لتصرفها دون علمه ودون موافقته.
هكذا أصبحت السياسة الداخلية في إسرائيل والقضية النووية مسألتين متشابكتين، وفي مثل تلك الظروف فإن حدوث أى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة قد ينجم عنه القضاء على التأييد الهش للبرنامج النووي داخل الحزب.
بحلول نهايات ديسمبر في العام نفسه كان بن جوريون قد قرر بالفعل تقديم استقالته لإجبار الحزب على الاختيار بينه وبين لافون، بيد أنه قام بإرجاء الاستقالة من أجل مفاعل ديمونة.. فقد خشى من احتمال رضوخ زملائه للضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة بشأن مفاعل ديمونة وذلك في حالة غيابه. وفي 31 يناير تقدم بن جوريون باستقالته و بعد ذلك بأيام قلائل تم إبعاد لافون عن منصبه. استمر بن جوريون يعمل كرئيس مؤقت للوزراء انتظارا للانتخابات التي كان من المقرر إقامتها في أغسطس ، لكن النزاع النووي مع الولايات المتحدة لم يحل ولم تخف حدته.. فقد كان كيندي مهتما شخصيا بموضوع الأنشطة النووية الإسرائيلية فما كان منه إلا أن عقد العزم على بذل قصارى جهده من أجل وقف انتشار الأسلحةالنووية في منطقة الشرق الأوسط وفي أى مكان آخر. التأكيدات اللفظية التي قدمتها إسرائيل وان كانت قد قوبلت بالترحاب إلا أنها لم تكن كافية لذا أصرت الإدارة الأمريكية الجديدة على أن يتم التحقق مما قدمه بن جوريون في بياناته من خلال التفتيش مبكرا على مفاعل ديمونة. في الوقت نفسه لم تكن الحكومة الإسرائيلية تريد إثارة النزاع بشأن "القضية الحساسة" والقضية الحساسة هو التعبير الذي تبنته الصحافة الإسرائيلية للتعبير عن قضية مفاعل ديمونة ولكن طالما أن تلك القضية لازالت دون حل فإنها ستظل تهدد العلاقة الفريدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
خصوم المشروع
عندما علم كيندي بأن إسرائيل مهتمة بطائرات "الميراج4" الفرنسية ذات القدرة على حمل قنابل نووية ثارت شكوكه أكثر، وفي هذه اللحظة كثف الخصوم السياسيون للمشروع من اعتراضاتهم على المشروع النووي ولكن بن جوريون كان يرى أنه لابد من تحاشي أية مواجهة بأي ثمن. في نهاية مارس قرر بن جوريون أن يرتب لقاء مع كيندي وبعد التغلب على المشكلات التي صادفت تحديد الموعد ومن بينها معارضة وزارة الخارجية الأمريكية لقيام بن جوريون بزيارة رسمية للولايات المتحدة وافق الزعيمان على عقد اجتماع خاص وشخصي بينهما في فندق وولدورف إستوريا بنيويورك. عقد الاجتماع بالفعل في30 مارس في ختام زيارة رسمية قام بها بن جوريون إلى كندا. ولتمهيد الطريق أمام اللقاء أرسلت إسرائيل دعوة خاصة لاثنين من علماء الفيزياء الأمريكيين البارزين وهما آى آى رابي العالم بجامعة كولومبيا وإيجوين وينجر العالم بجامعة برنستون "والذي تصادف وجوده في إسرائيل عندما تلقى الدعوة "عفويا"" وكلا العالمين يهودي وتربطهما صلة وثيقة بالمؤسسة العلمية الإسرائيلية.
في نهاية ابريل أو أوائل مايو قام كل من رابي ووينجر بزيارة مفاعل ديمونة وذلك برفقة عموس دى شاليت أحد أبرز علماء الفيزياء الإسرائيليين وأكثرهم تأثيرا وجاذبية.
لقد أثبت هذان الزائران أنهما ودودان بالفعل، فقد كتبا تقريرا عقب الزيارة يؤكد عدم وجود أى دليل على وجود أنشطة تتصل بتصنيع أسلحة. وفي أوائل مايو قدم راسك التقرير الخاص بهذين الزائرين إلى كيندي. هذا اللقاء كان هو الغرض الحقيقي وراء رحلة بن جوريون إلى أمريكا الشمالية. وطبقا لما أورده كاتب سيرة حياة بن جوريون حول هذا اللقاء كان رئيس الوزراء الإسرائيلي متوترا بشدة وخائفا من أن يؤدي موقف كيندي المتصلب بشأن مسألة المفاعل إلى تعريض العلاقات الأمريكية الإسرائيلية للخطر.
كانت تلك هى المرة الثانية التي يتقابل فيها بن جوريون البالغ من العمر 74عاما مع كيندي الذي يصغره بثلاثين عاما.
يذكر أن بن جوريون قد قال في أعقاب اللقاء الأول الذي جمعهما قبل ذلك بعام واحد "إنه كان ينظر إلي كفتى صغيرلا يتجاوز عمر 25 عاما منذ البداية، لم آخذه على نحو جاد".. والمقدار التالي من الحديث المتبادل بينهما مستقى من المعلومات التي زالت عنها صفةالسرية من قبل الولايات المتحدة ومن الوثائق الإسرائيلية: بعد التبادل المختصر للعبارات الودية اللطيفة بدأ بن جوريون الحديث قائلا: أنه كان قد عقد العزم على إطلاع الرئيس على الأمر إلا أنه رأى أن ذلك يعد إسهابا في الكلام لان العالمين الأمريكيين قد قاما بالفعل بزيارة موقع المفاعل.. ورد كيندي قائلا بأنه قد رأى التقرير وكان تقريرا "مفيدا جدا " وأضاف أنه على غرار النظرية القائلة "لا يكفي فحسب أن تكون المرأة طاهرة الذيل بل يجب أيضا أن تبدو للآخرين طاهرة" فإنه لا يكفي أن تكون أغراض إسرائيل سلمية بل يجب أيضا أن تقتنع الدول الأخرى بهذا الأمر.
تحلية مياه البحر
في رده شرح بن جوريون الفائدة التي ستعود على إسرائيل من الطاقة النووية قائلا: إن إسرائيل تفتقر إلى المياه العذبة وستكون التنمية أمرا مستحيلا ما لم يوجد مصدر رخيص للطاقة يسمح بتحلية مياه البحر. وأشار إلى أن إسرائيل توقن بأنه على الرغم من أن القوة الذرية مازالت غالية الثمن إلا أنها يوما ما ستصبح مصدرا رخيصا للطاقة وبعد أن عرض بإيجاز للخطط طويلة الأجل التي وضعتها إسرائيل لتحلية مياه البحر عرج بن جوريون إلى مناقشة الحاضر. ولأن ما أورده من تعليقات تقع في لب القضية فإنه من المهم إيراد أقواله كما ظهرت في وثائق كلا الجانبين.. ففي النص الذي سجله مدون الوقائع الإسرائيلي "السفير هارمان" يقول بن جوريون: "لقد تم سؤالنا حول ما إذا كان هذا المشروع للأغراض السلمية أم لا ويمكن القول انه حتى وقتنا الحاضر فإن الغرض الوحيد للمفاعل هو الغرض السلمي وسوف يكون لدينا ليس الآن ولكن بعد ثلاث أو أربع سنوات خطة إرشادية للفصل وهو الأمر الضروري على أية حال لمفاعل قوي". ومضى قائلاً:
"ليست هناك تلك النية الآن ليس قبل أربع أو خمس سنوات ولكننا سنرقب ما سيحدث في الشرق الأوسط فالأمر لا يتوقف علينا فلربما لا تمنح روسيا قنابل للصين أو لمصر ولكن مصر قد تطور تلك القنابل". أما المدون الأمريكي لوقائع اللقاء " ماير فيدلمان المستشارالخاص لكيندي للشئون الإسرائيلية" فقد كتب: إن الغرض الرئيسي لإسرائيل في الوقت الحاضر فحسب هو الحصول على تلك الطاقة الرخيصة وغيرها من الاستخدامات السلمية. وأضاف رئيس الوزراء الإسرائيلي قائلا : إننا لا نعلم ما الذي سيحدث في المستقبل ففي غضون ثلاثة أو أربعة أعوام ربما نحتاج إلى وحدة لمعالجة البلوتونيوم. وتعليقا على الأمور الدالة على القوة الذرية والتسليح قال رئيس الوزراء الإسرائيلي: انه لا يصدق بأن المصريين لن يكون بمقدورهم خلال 10 أو 15سنة تحقيق ذلك بمفردهم. ورد كيندي على ذلك بالعودة إلى النقطة الأولى فقال انه في الوقت الذي يقدر فيه حاجة إسرائيل إلى تحلية مياه البحر إلا أنه من المهم للولايات المتحدة ألا تظهر إسرائيل بمظهر من يعد لإنتاج أسلحة ذرية ولا سيما في ظل العلاقة الوثيقة التي تربط بين الولايات المتحدة وإسرائيل .
ذلك لأن الجمهورية العربية المتحدة " مصر" والكلام لكيندي سوف تحاول فعل الشيء نفسه وإذا كان هناك احتمال لانتشار الأسلحة الذرية في غضون السنوات الخمس التالية فإننا لا نريد لهذا أن يحدث. وعند هذه النقطة تختلف رواية الجانبين لما حدث بعض الشيء فطبقا للنص الإسرائيلي قال كيندي : إن التقرير بحد ذاته تقرير جيد وقد يكون من المفيد أن يتم نشر ما به من معلومات بيد أن الملخص الأمريكي لما دار كان أكثر إيضاحا من سابقه.
تقول الرواية الأمريكية: ثم سأل الرئيس ثانية عن مدى إمكانية إحاطة الدول العربية علما بالنتائج التي توصل إليها العالمان الأمريكيان اللذان زارا مفاعل ديمونة، وذلك في سبيل بث الطمأنينة لدى هذه الدول. على أية حال فقد طالب كيندي من بن جوريون أن يدعه يذيع النتائج التي توصل إليها العالمان و كلا الروايتين تؤكدان أن بن جوريون أعطى لكيندي مطلق الحرية في أن يفعل بالتقرير ما يراه ملائما.
ثم قام كيندي بالتقدم خطوة أبعد على مجرى الحديث حيث سأل بن جوريون قائلا: باعتبارنا أي الولايات المتحدة وإسرائيل صديقين حميمين . أليس من الأفضل أن يقوم علماء محايدون كالعلماء الإسكندنافيين أو السويسريين بملاحظةالمفاعل؟ وفي هذا الجانب أيضا لم يبد بن جوريون أي اعتراضات كما أعرب كيندي عن رضائه عن الرد الذي قاله بن جوريون.
إهمال وتغاضٍ
في ظل هذا الجو من التفاهم المتبادل تم إهمال القضية النووية وعرج الحديث إلى مناقشة القضايا العامة من قبيل أمن إسرائيل. يمكن القول ان بن جوريون في لقائه ذاك مع كيندي قد اتبع سياسة الحذر نفسها التي اتبعها في بيانه إلى الكنيست في ديسمبر1960 فقد كان يحدوه أمل ضعيف بالرغبة في كسب الوقت لإتمام مفاعل ديمونة. وفي الوقت نفسه كان يريد تحاشي حدوث أية مواجهة أو كذب صريح كما لم يكن لديه استعداد لتحمل أي التزامات تتعلق بالمستقبل قد يصبح من المستحيل تحقيقها وكان ذلك في مجمله عملا أقرب إلى أعمال الحواة.
كان هو يعلم ذلك تماما ولعل التوتر الذي سبق اللقاء يؤكد هذه النقطة.. فمن المؤكد أنه قرر أنه من المجازفة أن يتم الاعتراف بمصلحة إسرائيل في المجال النووي وردود أفعال كل من إيزنهاور وكيندي تؤكد أنه كان على صواب وكل ما فعله بن جوريون هو أنه قام بإخفاء الغرض الحقيقي والمباشر لمفاعل ديمونة خلف الأسباب و المبررات المدنية والسلمية والمشروعة لإقامته ألا وهي الحاجة إلى طاقة رخيصة خاصة من أجل تحلية مياه البحر هذا التفسير لا يلقى على عواهنه بل يستند إلى أسس فقد كان بن جوريون مقتنعا اقتناعا تاما بأن الطاقة النووية سوف تصبح هي مفتاح الصهونية لازدهار منطقة النقب. على هذا فقد كان الإيمان بالطاقة النووية موضوعا مألوفا لدى بن جوريون وكان برجمان مستشاره العلمي يؤكد له دائما أن هناك نوعاً واحداً فقط من الطاقة النووية هذا النوع يمكن أن يستخدم للأغراض السلمية وللأغراض غير السلمية ويلاحظ أنه على الرغم من أن بن جوريون قد أكد بشكل مبالغ فيه على اهتمام إسرائيل بالاستخدام المدني و السلمي للطاقة النووية إلا أنه لم يستبعد صراحة ولو لمرة واحدة خلال الحديث إمكانية اتجاه إسرائيل مستقبلا نحو إنتاج أسلحة نووية. لقد أشارت كلتا الروايتين المسجلتين للحديث الذي دار بوضوح إلى أن بن جوريون لم يتعهد فعليا بأي شيء يتوجب عليه الالتزام به. فقد تعمد طيلة الحديث أن يختار من الكلمات ما هو غامض كما أنه أدخل عنصر التوقيت والذي كان غامضا هو الآخر سعيا منه إلى ترسيخ تأكيداته على الأغراض السلمية للمشروع، كما أنه لم يخف عزم إسرائيل على بناء "وحدة صناعية تجريبية لفصل البلوتونيوم" خلال أربع أو خمس سنوات.
الغريب في الأمر أن كيندي لم يبد أى تعليق على هذا الأمر، وحقيقة الأمر أن كيندي لم يطرح على بن جوريون سوى القليل من الأسئلة وهنا نجد أنه لم يخفق فحسب في سؤاله عن الوحدة الصناعية المزمع إنشائها لفصل البلوتونيوم بل أنه لم يتعرض أيضا بأي سؤال حول ملكية هذا البلوتونيوم الذي ربما ينتج هناك .
الشيء الوحيد الذي فعله كيندي هو مطالبته بجعل النتائج التي توصل إليها العالمان اللذان زارا المفاعل معروفة من قبل الدول الأخرى وكان يعني بهذه الدول الأخرى الدول العربية تحديدا وذلك كجزء من التأكيد على التزام الولايات المتحدة بحظر انتشار الأسلحة النووية بصفة عامة والقلق من مصر بصفة خاصة وهو المطلب الذي وافق عليه بن جوريون موافقة تامة، وحتى المطلب الذي طرحه كيندي بشأن جعل علماء من دولة أخرى يزورون مفاعل ديمونة قد جاء مطلبا عاما ولم يتخذ شكل مطلب عاجل وفي التقدير أن السبب وراء ما انتهى إليه اللقاء هو أن كلا الزعيمين كان يريد تجنب المواجهة وأن كليهما كان يستشعر بقيود سياسية تحيط به واستنادا إلى هذا الفهم يمكن القول ان كلاهما قد خلق للعبة النووية قواعده الخاصة طيلة اللعب فلم يطرح كيندي أي أسئلة تذهب أبعد مما أخبره بن جوريون بشكل شخصي. والدليل على ذلك أن كيندي لم يناقش على سبيل المثال ما هي حاجة إسرائيل إلى مفاعلين بحثيين أحدهما مفاعل أمريكي صغير و الآخر مفاعل كبير صممته فرنسا ويمكنه إنتاج كميات كبيرة من البلوتونيوم كما لم يسأل كيندي لماذا احتاجت إسرائيل إلى وحدة صناعية لفصل البلوتونيوم أو لماذا سوف تنفق إسرائيل الكثير من مواردها المالية في مفاعل بحثي كبير رغم أنه يعد من الناحية الظاهرية خطوة مؤقتة لبناء وحدة للطاقة النووية، أو لماذا ظلت الصفقة الإسرائيلية الفرنسية سرا وهي ذات القضايا التي أدت إلى حدوث المواجهة خلال شهري ديسمبر ويناير.
لم يحاول كيندي من جانبه أن يستخلص من بن جوريون وعدا بأن إسرائيل لن تطور قدراتها النووية في المستقبل وبدلا من ذلك حصر كيندي نفسه بوضوح في مجرد موقف الولايات المتحدة من حظر انتشار الأسلحة النووية وأبرز فقط الحاجة إلى تأكيد نوايا إسرائيل للآخرين.
ولعل ما أدى إلى خلق تلك الأجواء الإيجابية هو بالطبع ذلك التقرير الذي قدمه العالمان الأمريكيان، ولأن هذا التقرير مازال غير متاح فإننا مازلنا لانعلم على وجه التحقيق ما الذي رآه عالما الفيزياء و ما قام مرافقوهم الإسرائيليون بإطلاعهم عليه. لكن بالنسبة إلى رابي فإنه مع فائق التقدير لمؤهلاته كعالم فيزياء يجب ملاحظة أنه لم يكن خبيرا في تصميم المفاعلات النووية. أما بالنسبةإلى وينجر فإنه قد عمل في هذا المجال خلال مشروع منهاتن إلا أن موقع ديمونة الذى زاراه كان لايزال تحت الإنشاء، كما كان يرافق هذين الزائرين أحد أكثر علماء الفيزياء الإسرائيليين جاذبية واستنارة وبعد ذلك بعدة سنوات قال ماك جورج بوندي مستشار الأمن القومي في إدارة كيندي ان زيارة العالمين الأمريكيين لمفاعل ديمونة في الستينات لم تجر بشكل جاد وصارم على النحو الذي كان يتوجب أن تكون عليه، حتى يمكن الخلوص منها بقصة حقيقية وعلى الرغم من أن القضية النووية كانت هي الباعث الأساسي على لقاء نيويورك كما كانت السبب في القلق الذي كان يتملك بن جوريون، إلا أن اللقاء لم يستغرق فعليا أكثر من 15 دقيقة. لم يبذل كيندي أى ضغوط جديدة كما لم يكن بن جوريون بحاجة إلى استخدام الحجج التي أعدها فكما كتب كاتب سيرة حياة بن جوريون: كان بن جوريون يشعر بالارتياح فلقد أصبح المفاعل آمنا على الأقل في الوقت الحاضر، عند استعادة الأمر الآن نجد أن اللقاء الذي تم في والدورف أستوريا كان سباقا للمستقبل فقد أرسى ربما بشكل غير متعمد المعايير التي عقدت الدولتان في ظلها صفقاتهما بشأن "المسألة الحساسة" أي المسألة النووية كما سمح اللقاء بإسقاط قضية ديمونة من الأجندة الأمريكية الإسرائيلية لمدة عامين تقريبا. في الوقت الذي أصبحت فيه قضايا من قبيل اللاجئين والمياه تحتل مكانا مركزيا في تلك الأجندة وإلا قضية مفاعل ديمونة عادت لتطفو على السطح مرة أخرى في مايو ويونيو من عام 1963 لأن المشروع كان على وشك أن يبدأ العمل.. هذا من جانب ومن جانب آخر لأن بن جوريون ضغط على الولايات المتحدة من أجل تأكيدات أمنية وبالتبعية تحدث كيندي عن احتمال قيام مفاعل ديمونة بإنتاج الأسلحة. وفي المراسلات التي دفعت بالعلاقات الأمريكية الإسرائيليةإلى حافة الأزمة والتي ربما تكون قد أسهمت في تقديم بن جوريون لاستقالته في منتصف يونيو عن عمر يناهز 76 عاما وجد رئيس الوزراء الجديد ليفي أشكول صيغة جديدة أرضت كلا الطرفين هذه الصيغة تتمثل في سماح إسرائيل لمفتش أمريكي واحد بزيارة المفاعل مرة كل عام وذلك كما اقترح بن جوريون من قبل على أن تتعهد إسرائيل من جانبها بألا تكون هي البادىء بإدخال الأسلحة النووية إلى منطقة الشرق الأوسط ومع ذلك فإن اتفاق منتصف عام 1963 اللاحق ضمنيا للتفاهمات السابقة عليها ولد ميتا .
لقد كان الميراث الذي خلفه لقاء كيندي بن جوريون عام 1960 لازال باقيا وبينما كان كلا الزعيمين يختبر قوة الإرادة السياسية للآخر سواء في عام 1960 أو في المرة الثانية عام 1963 فإن قواعد تلك اللعبة الماكرة كانت قد تطورت وعن غير علم.. أصبح الرئيس كيندي الشريك الرئيسي لبن جوريون في صنع الوضع النووي الفريد لإسرائيل.
إن بذور عدم الشفافيةالنووية الإسرائيلية والاستجابة الأمريكية لها كانت قد اينعت بالفعل .. تلك هي قصة إسرائيل وتطور سلاحها النووي الذي حول ميزان الصراع في الشرق الأوسط لمصلحة الدولة العبرية.
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|