منذ زمن ليس ببعيد، كانت الأسرة تلعب دور شركة التأمين، وكان الأطفال يعتبرون نوعاً من الاستثمار. ولكنهم اليوم، أي الأطفال، بمثابة أموال استهلاكية. ولذلك فإن اختيارات الأزواج لهذا النوع من الإنتاج أصبحت مقيدة بالاقتصاد.
لقد تحفظ الاقتصاديون حوالي قرنين من الزمن عن الكلام عن الأسرة أو في شؤونها، وتركوا تلك المهمة لعلماء الاجتماع والمحللين النفسيين.
والجدير بالذكر أن البحث الوحيد المقدم في تلك الفترة من قِبل أحد الاقتصاديين في مجال السكان لم يدعم بالحقائق.
فقد أطلق روبير مالتوس صرخة إنذار في بحثه المقدم عام 1798م تحت عنوان: (أصل المشكلة السكانية)، حينما قال إن الزيادة السريعة في السكان تمثل عائقاً ضخماً في طريق التقدم. فكلما زاد الدخل تزوج الشباب في سن صغيرة وأنجبوا أطفالاً.
واختتم مالتوس الذي أصبح فيما بعد مدرساً للاقتصاد السياسي بحثه قائلاً: إن الإنتاج الزراعي لن يستطيع وحده مواجهة هذا النمو السريع للسكان، ولكن الحل يكمن في تحديد النسل برفع سن الزواج، لكي نتجنب تفشي المجاعة والفقر.
وفي الواقع، لم تتحقق توقعات مالتوس التشاؤمية.. فقد أتاح التقدم التقني زيادة مدهشة في الإنتاج الزراعي، ولم يسهم ارتفاع مستوى المعيشة في دفع الأزواج إلى إنجاب عددٍ أكبر من الأطفال، بل على العكس، انخفض معدل المواليد بشكل ملحوظ، حتى انه بات يهدد القدرة على التعويض السكاني.
وفي محاولة لتفسير هذا التطور المذهل قدّم جاري بيكر عدة أفكار مهمة ولا سيما فيما يتعلق بقيمة الوقت وأهمية رأس المال البشري، إذ اقترح رؤية جديدة تماماً للأسرة، وذلك من خلال بحثه المسمّى (رسالة حول الأسرة)، مما جعله يستحق فعلاً أن ينال جائزة نوبل في الاقتصاد.
فقد أوضح بيكر أن مالتوس أخطأ في توقعاته، لأنه وضع في اعتباره فقط عدد الأطفال وليس نوعية الأطفال. فقد أهمل الرعاية التي تقدم إلى كل طفل، والتكاليف التي ينفقها الوالدان لتربيته وصقله وتدريبه لكي يصبح جذاباً وذكياً.
بيد أن هذه التكاليف تكون دائماً متغيرة (صحة - تعليم - ترفيه).
وبناء عليه، فإنَّ الأزواج لن يفكروا في إنجاب عددٍ أكبر من الأطفال حتى لو ارتفع دخلهم، ولكنهم سيلجؤون إلى تربيتهم بأفضل الوسائل.
وأضاف بيكر أنه بين عصر مالتوس وعصرنا هذا حدث تغيّر تام في وضع الأطفال داخل الأسرة، وفي شتى أنحاء الحياة المعيشية.
فيما مضى، وفي المجتمعات التقليدية الريفية خاصة، كان الأطفال يستطيعون المساعدة في الأعمال اليسيرة في الحقل أو المصنع.. فقد كانت الأسرة عاملاً مهماً، لأنها تحمي كل أفرادها من غدر الحياة، وكانت بمثابة شركة تأمين ذات فاعلية.
ولكن اليوم، لم تعد الروابط التي تضم الأجيال وثيقة كما كانت في الماضي.. ولم يعد الأطفال يمثلون حصة في الأيدي العاملة، وليسوا بمثابة حماية للمستقبل.
لقد فقدت الأسرة جزءاً مهماً من مهامها لأن آليات السوق والدولة عندما تحملت مسؤولية التعليم والبطالة والمرض والشيخوخة قد حلّت بذلك محل الأسرة. وبعد أن كان الأطفال فيما مضى نوعاً من الاستثمار أصبحوا اليوم مواد استهلاكية.
وختاماً أقول: إن أخطر قضية تجابه الأسرة في مجتمعاتنا المعاصرة هي أن الفردية حلت محل الأسرية.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي
عضو الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية
عضو جمعية الاقتصاد السعودية