* إعداد - محمد رضا
العدد المتوفر في الأسواق العربية والعالمية من مجلة (برميير) ذائعة الصيت، هو آخر عدد سيصدر منها. سارع واشترى نسختك واحتفظ بها للتاريخ. برميير التي صدرت شهرية في مطلع التسعينات قررت التوقف بعد ستة عشر عاماً على صدورها. في أفضل سنوات انتشارها كانت مبيعاتها تجاوزت الـ700 ألف نسخة، لكن حين نظرت إلى وضعها الحالي أدركت أنها في إنحدار خطر لا قائمة من بعده. لقد وصلت مبيعاتها إلى نحو430 ألف نسخة. عدد كبير في حسباننا، وهذا الناقد يتمنّى لو كانت لديه مجلة سينمائية تبيع 40 ألف نسخة لا أكثر، لكن في حسابات الشركة التي تنشرها، هذا الرقم هو أقل من الرقم المسجّل قبل ستة أعداد، والإعلانات فيه أقل مما كانت عليه في السابق.
أكثر من ذلك، تدرك أنها فقدت زمام المبادرة في الإمساك بياقة القارئ وإجباره على قراءتها وذلك بوجود العدد الكبير من المواقع الإلكترونية التي تضخ مواداً سينمائية جديدة كل يوم. برميير نفسها تحوّلت إلى موقع إنترنت قليل التكاليف ويأمل في لم شمل المخلصين من قرّائها لجانب مجموعة جديدة من القراء الذين يمضون الساعات الطويلة وهم ينتقلون من موقع إلى آخر في فضاء المواقع الإلكترونية.
ما الذي حدث تماماً؟ ما الذي جعل واحدة من أشهر وأكبر المجلات السينمائية الأمريكية تغلق بابها؟ وبالتحديد ما هو (زمام المبادرة) ذاك الذي خسرته؟ وماذا عن المجلات السينمائية الأخرى في العالم العربي وفي أوروبا وفي الولايات المتحدة نفسها؟ هل هناك أي منها؟ كيف تعيش؟ من هم قرّاؤها؟.
مجلاّت السينما، وأنا أتحدّث عن المجلات الجادّة وليس تلك التي تسمّي نفسها فنية وتتناول نجوم السينما، كما نجوم كرة القدم، والتي انتشرت مباشرة في أعقاب انتشار السينما ذاتها. ففي العام 1889خرجت أول مجلة سينمائية جادّة وذلك في بريطانيا، باسم (الجريدة البصرية للمصباح السحري)، وهذا بعد أربع سنوات فقط على إطلاق الأخوين لوميير أول فيلم بيعت له بطاقات دخول (خروج العمّال من مصنع لوميير)، ولا توجد دلائل تشير إلى مجلة سينمائية قبل ذلك التاريخ.
لكن قبل ظهور هذه المجلة ظهرت كتابات في مجلات غير متخصصّة بعضها كان ذا وجهة تقنية أو صناعية مثل مجلة باسم (العصر) وأخرى باسم (الاستعراضي)، وهذه الأخيرة كانت تتناول بين صفحاتها كل ما له علاقة بعالم الاستعراض من المسرح إلى المعارض ومن المطبوعات إلى الموديلات النسائية.
المجلة الأولى المذكورة مرّت بتغييرات عديدة دون أن تتخلى عن مهامها الجادة واستمرت بالصدور تحت أسماء مختلفة في عقود متلاحقة حتى العام 1971 عندما اختفت تماماً. في السنوات الإحدى عشرة من حياتها صدرت تحت اسم يحتفظ بالنكهة القديمة لكلمة سينما وهو Kino Weekly. كثير من المجلات الأخرى التي صدرت في أوروبا خلال الخمسة عشرة سنة الأولى من القرن العشرين من بينها (السينما) و(البيوسكوب) وكذلك (السينماتيك فرنسيز) و (الفيلم الفرنسي) التي لا زالت تصدر إلى اليوم، ولو أنها تحوّلت من مجلة ذات اهتمامات سينمائية متعددة إلى مجلة تعني بأمور الصناعة والبزنس، وكلّها عرفت النقد السينمائي ونشرته.
ومن العقد الثاني من القرن العشرين إلى الخمسينات ظهرت العديد جداً من المجلات المتعلّقة بالفن السابع. بعضها كان أكثر جدّية من البعض الآخر. لكن حتى تلك التي لم تكن جادّة بما فيها الكفاية، كانت أفضل حالاً من تلك الخفيفة المنتشرة حالياً. أتكلّم عنها عن (ري ?و دو سينما) و(سيني) الفرنسيّتان، و(موشن بيكتشرز) و(سكرين) و(مودرن سكرين) في أمريكا، (فيلم ريفيو) و (فوتوبلاي) في بريطانيا وأمثلاها من مجلات أهتمّت بالنجوم وبالأحداث لكنها خصصت أيضاً حيّزاً من اهتماماتها لتغطية الأفلام ذاتها. المجلات النقدية المهمّة بدأت معظمها من الخمسينات وصاعداً.
في فرنسا ألّف فريق من محبّي السينما ومنهم جان - لوك غودار وكلود شابرول وأندريه بازان وجاك ريفيت وإريك رومير، من بين آخرين، مجلة (كاييه دو سينما) التي عكست نحواً جديداً من الإلمام بماهية السينما وطرحت تفسيرات مختلفة عن الطروحات السابقة حتى بالنسبة للأفلام الأميركية. نصف المذكورين تحوّلوا بأنفسهم بعد ذلك إلى الإخراج في الستينات مطلقين ما عُرف بالموجة الفرنسية الجديدة، تلك التي شملت على أفلام لا زالت تمثّل نحو 40% من مجمل إنتاجات فرنسا كل عام إلى اليوم.
في بريطانيا، خرجت (مونثلي فيلم بوليتين) وكانت مطبوعة شهرية من إصدار (ناشنال فيلم ثيتر) الشبيه بالسينماتيك لا تحتوي، من غلافها إلى غلافها، إلا على نقد الأفلام التي تعرضها الصالات البريطانية. أيضاً خرجت مجلات نقد ودراسات سينمائية رائعة من بينها (سايت أند ساوند)، (فيلمز أند فيلمينغ)، (فوكاس أون فيلم)، (مو?ي) من بين أخرى عديدة. من بين كل هذه المجلات وحدها (سايت أند ساوند) لا زالت تصدر.
والحال في الولايات المتحدة كان نفسه. نشاط غزير في الستينات والسبعينات على هذا الصعيد نتج عنه (فيلم كومنت)، (أمريكان فيلم)، (سينما)، (فيلم كوارترلي)، (جامب كَت)، (سينياست)، (برايتلايت)، وسواها وفي كندا القريبة مثل مجلة (أكشن). كذلك شهدت الدول الغربية واللاتينية عموماً انتشار مجلات السينما للثقافة وصولاً إلى العالم العربي نفسه.
في مصر، واظبت وزارة الثقافة والإرشاد القومي من الستينات بإصدار مجلات متخصصّة كان يرأسها ويحررها نقاد وسينمائيين معنيين بنشر الثقافة في هذا المجال. نتحدّث عن (فن) و(السينما) و(السينما والمسرح).
وفي سوريا خرجت، ولا تزال، (الحياة المسرحية) وتونس والعراق والمغرب عرفت مجلاتها (أشهرها الفن السابع) وفي لبنان نحو منتصف السبعينات، خرجت أوّل مجلة سينمائية متخصصة باسم (فيلم) كان لي شرف رئاسة تحريرها حين كنت لا زلت طالباً. بعدها لم يصدر من لبنان أي مجلة من هذا النوع رغم إنتشار النقد السينمائي فوق كل الصفحات اليومية والأسبوعية.
أين ذهبت معظم هذه المجلات؟
يعتمد ذلك على الموقع الجغرافي.. في بريطانيا اليوم، تتصدّر (سايت أند ساوند) المجلات المتخصّصة بالسينما، لكنها في هذا المجال منفردة. المجلات السينمائية الأخرى التي تصدر هناك، مثل (إمباير) و(توتال فيلم) ترفيهية ولو أنها أيضاً عن السينما. والأفلام التي في بالها دوماً أمريكية وأفضلها الذي يحمل قيمة ترفيهية أعلى.
في فرنسا، لا زالت (كاييه دو سينما) حيّة، كذلك (بوزتي?) و(سينما) من بين أخرى. كذلك، ومن الرعيل الأول جداً، مجلة (سيني) ومجلة (الشاشة الفرنسية) التي كانت لكل أنواع الكتابات السينمائية لكنه - ومنذ السبعينات - تخصصت في الصناعة والتجارة السينمائية وهو نحو من المجلات أقدمهن في المهنة اليوم (فاراياتي) الأمريكية تتبعها (الشاشة الفرنسية) هذه و (هوليوود ريبورتر) في أمريكا ثم (سكرين إنترناشنال) البريطانية. في أمريكا غابت معظم المجلات المتخصصة وبقيت في الساحة (فيلم كومنت) و(سينيَست) و(أكشن) الكندية، وفي السنوات الخمس الأخيرة تم إضافة مجلة باسم (سيني سكوب) تصدر مرة كل شهرين. و(فيلم كوارترلي) تصدر كذلك مجلة خاصّة بالمصوّرين السينمائيين تصرف عليها جمعيّتهم (لذلك لا زالت تصدر) وهي (أمريكان سينماتوغرافر). إذاً لا زال هناك أكسجين تتنفسه بعض تلك المجلات. لكن معظمها يستند إلى حقيقة أنه مدعوم إما بتمويل جانبي من إحدى الجامعات أو أنها تصدر بأي إمكانيات متاحة (أكشن بالأبيض والأسود).
وهذا يكشف عن أن السبب في غياب مجلة (برميير) التي كانت تبيع أكثر من أي من هذه المجلات بل وأكثر من بعضها مجتمعة، يكمن في أنها كانت مجلة منتصف طريق بين الجاد والترفيهي. كانت تتقصّد أن تكون الكلمة الأولى بالنسبة للجديد من الأفلام المعروضة، لكن الكلمة الأولى أخذت تتعرّض للقرصنة من قبل مواقع الإنترنت، بحيث ما عادت أولى حين وصولها إلى المجلة التي كان عليها أن تدوّنها وتنتظر أسابيع قبل أن تنشرها على صفحاتها. والواقع أن لا أحد يدّعي أن هناك جمهوراً كبيراً لمثل هذه المجلاّت، وما يزال يصدر منها لا يثبت أن هناك جمهوراً كبيراً، بل ربما يصدر لأن حب النقد وحب السينما هو الطاغي وهو الدافع ولأن عشرات الآلاف من الناس التي لا زالت تقبل على هذه المجلات هي فئة ستحرم كليّاً من هذه المجلات إذا ما توقّفت.
الستينات والسبعينات كانت فترة ذهبية لكل السينما. أفلاماً وتيارات وقضايا ومجلات سينمائية، ولولاها لما كان هذا الكاتب يكتب اليوم، فهو من حصيلتها ومن المتأثرين بمدارسها والمنتمين إلى حنينها. لكن في حين أن غياب ما غاب منها مرجعه جماهيري بالدرجة الأولى، فإن غياب المجلات العربية، مرجعه أما الظروف العامّة (الوضع اللبناني المضطرب قبل بدء الحرب كان عاملاً لإغلاق مجلة فيلم السينمائية) وإما لأن القائمين على هذه المجلات لم يعملوا صحافياً بل ثقافياً فقط، فجاءت مجلاّتهم أشبه بمراجع تاريخية جامدة ومقالات في سينمات يفترض الكاتب أن الجمهور شاهدها أو أنه سيقرأ عنها من دون مشاهدتها.
نعم في كثير من الأحيان نفعل ذلك، لكن الأذكياء منّا يفعلون ذلك من دون أن ينسوا أهميّة الجانب التعريفي والمعلوماتي بحيث تتحوّل المقالة بأسرها إلى عامل جذب. أما الكتابات التي كانت تلك المجلات الرسمية تصدرها فكانت عبارة عن حب للسينما أكثر منه حب لجمهورها أيضاً.