إذا ما كان مهرجان كان السينمائي الدولي يعيش أكثر سنوات حياته ازدهاراً، فإن وضعه الحالي ليس ضمانة على أي شيء مستقبلي. في أي عام يقع فيه أمر غير محسوب يقبل المهرجان على وقفة قد تهدد تحليقه الحالي. عامان متواليان من الإنتاجية الفقيرة وأهميّته الحالية كرائد للمهرجانات الدولية ستتعرّض للاهتزاز. سنة ثالثة من هذا الافتقار ومكانته تتأخر.
أكثر من ذلك إذا ما تغيّرت الإدارة أو الرئاسة (كما سيكون مطروحاً خلال أعوام قليلة مقبلة) والرئيس الجديد قرّر أنه لا يريد مهرجاناً دعائياً للسينما الأمريكية، كما هو الحال اليوم، بل سيقصر الحضور الأميركي على الأفلام المستقلّة والصغيرة التي بحاجة إلى مهرجان مثل (كان) يروّجها ويقدّمها للجميع، فإن نسبة من الإقبال الإعلامي كبيرة ستخف. أما إذا قوي ساعد سوق سينمائية في مكان آخر من العالم فسيؤدي ذلك إلى ضعفها في (كان) وهذا سيقلل أيضاً من أهميّته.
والتاريخ ليس بعيداً
فحين انطلق (كان) بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان فريداً من نوعه. صحيح أن مهرجان (فانيسيا) انطلق قبله (تحديداً في العام 1939) بقرار من ماسوليني، إلا أنه تحوّل إلى شاشة تعرض أفلام المحور في ذلك الوقت (ألمانيا وتركيا وإيطاليا) أساساً، ثم انضوى حين خسر المحور تلك الحرب وتوقّف تماماً إلى أن عاد بعد انطلاقة مهرجان (كان) محاولاً العودة إلى أصول اللعبة بأسرها: أفلام مفتوحة من كل مكان من العالم.
هوليوود وكان
في الخمسينات خسر (كان) ريادته ليس بتعدد المهرجانات الأوروبية المحيطة فقط (حينها أصبح لكل دولة كبيرة مهرجانها المميّز باستثناء لندن التي كان مهرجانها نوعا من قطف الأفلام من مهرجانات أخرى)، بل بسبب انطلاقة المهرجان الإسباني الكبير سان سابستيان بمباركة ملكها آنذاك.
النجوم كانوا يتوافدون بالطائرات الخاصّة إلى المهرجان الإسباني حيث الأفلام الفنية الكبيرة والرائعة. أما المهرجان فكان في تلك الفترة نوعاً من الجمع الفني والفضائحي. البحر بلا شك ساعده. ليس بحر المحيط الهادر، بل بحر المتوسّط الأزرق الجميل. طوال الستينيات والسبعينيات كانت المنافسة بينه وبين المهرجانات الكبرى قويّة: برلين كان يليه في يونيو، وفانيسيا يكمن له في سبتمبر وبينهما موسكو والى جانبهما سان سابستيان.
هذا قبل أن ينهار الجدار الفاصل بين الشرق والغرب الأوروبي، فيجد برلين أن واحداً من دعاماته الكبيرة كملتقى لسينما الشرق والغرب سُحبت منه. أما فانيسيا فقد دخل متاهة السياسة حيث أداره الحزب الحاكم حسب توجّهاته فمرة هو مهرجان يساري ومرّة يميني وثالثة يبحث عن لقاء جامع، وفي كل الأحوال يبحث عن تمويل يمنحه القدرة على جذب النجوم والوجوه والأسماء اللافتة. لكن المهرجان الفرنسي سريعاً ما تبلور إلى ما هو عليه اليوم بتوسيع رقعة الاعتماد على ما هو جماهيري وتحديداً على ما هو أميركي.
اشكالية التوجه
من ناحية استطاع المهرجان استقطاب النجوم كما لم يفعل مهرجان آخر من قبل. وطريقته في ذلك أنه فتح الباب على مصراعيه للأفلام الهوليوودية، إن لم يكن في المسابقة فخارجها. هوليوود التي عادة لا تجد فائدة تُرجى من المهرجانات السينمائية، على أساس أن أفلامها تحتاج إلى جمهور يدفع تذاكر وليس إلى نقاد يكتبون عنها، أخذت تعتبر (كان) محطّة ترويجية لأفلام الصيف. بوصول تلك الأفلام وصل نجومها. وبوصول نجومها ازداد عدد الإعلاميين المشتركين كصحافة مكتوبة ومصوّرة ومسموعة، وبهذا الازدياد كبر حجمه أكثر من أي وقت سبق لجانب إعادة تركيب سوقه التجاري وتنظيم المدينة كلها كما لو كانت (ديزنيلاند) سينمائي.
المنتقدون لهذا التحوّل كثيرون، وغالبهم من المثقّفين والنقّاد. بالنسبة إليهم هذا التوجّه يعاكس الفكرة الأساسية من وراء أي مهرجان وهو اكتشاف وترويج الأفلام الفنية أوّلاً وقبل كل شيء. ما لا يمكن تجاهله، هو أن المهرجان من دون هذا الدعم السينمائي لهوليوود سيخسر حجم روّاده من الإعلاميين، وإذا ما تم ذلك من الذين سيروّج للأفلام الأخرى غير الأميركية؟ الأمر صعب على هذه الأفلام كما هو الحال حالياً. الفيلم الصغير ينجح بفضل الفيلم الكبير. بيعة واحدة. مغلّف تشتريه بما فيه صغيراً أو كبيراً.
ولادة جديدة ل(سان فرانسيسكو)
مهرجان سان فرانسيسكو (الذي أقيم ما بين الثامن والعشرين من يونيو حتى العاشر من مايو) هو أعرق مهرجانات السينما في أميركا الشمالية. إذ تم إطلاقه سنة 1957. ولخمس وعشرين سنة كان سيّدها. بقي في الصدارة إلى نهاية السبعينات مستفيداً من مناخ المدينة التي أقيم فيها كونها ليبرالية وجمهورها من المثقّفين والهواة وطلاب جامعة بيركلي المنفتحين، إلى اليوم، على سينمات أوروبا وثقافاتها كما ليس في أي مكان آخر من الولايات المتحدة باستثناء نيويورك ذاتها. ولا ننسى أن الستينات والسبعينات شهدت حركات (ثورجية) في الشارع الأميركي تبعاً للقضايا الاجتماعية التي كانت مطروحة ومنها قضية الحد من التطرّف العنصري والسعي للحقوق المتساوية للمواطنين السود وحركة معاداة الحرب في فيتنام وهي قضايا كانت سان فرنسيسكو من أهم معاقلها الفكرية وأحياناً الميدانية إذ اشتركت في التظاهرات والمواجهات التي وقعت بين طلاب وشباب أميركا والبوليس شأنها في ذلك شأن نيويورك وشيكاغو وبوسطن ولوس أنجيليس وسواها من مدن أميركا الكبرى. لكن سان فرانسيسكو خسر تألّقه بعد ذلك. تفسير ذلك قد يعود إلى أن الثمانينات اختلفت جذرياً. وقد يعود إلى أن موعده في مطلع الموسمين الخريفي والشتوي في كل عام قد تغيّر إلى الربيع، فسابقاً كان موعده في شهر أكتوبر في الوقت الذي كان فيه موسم الصيف موسماً ميّتاً. الآن هناك تورنتو ونيويورك يقعان في ذات الحيّز أما سان فرانسيسكو فانتقل إلى يونيو وخسر موقعاً.
صمود ما بعد الخمسين
الآن هناك عدد كبير من المهرجانات الأميركية التي تستوعب تجارب مختلفة. من سندانس المتخصص في السينما المستقلّة إلى مهرجان بالم سبرينغز الذي يجلب إليه عدداً كبيراً من الأفلام الأجنبية، إلى ترايبيكا، الذي انتهت دورته السادسة قبل أيام، إلى تورنتو الكندي الذي هو الأكبر حجماً اليوم من أي مهرجان آخر في القارة الأميركية. واللافت إلى حد غريب هو أن المهرجانات الأميركية العتيدة والعريقة، مثل سان فرانسيسكو ونيويورك وشيكاغو، أصبحت أقل لمعاناً اليوم مما كانت عليه بالأمس. المهرجانات الأكثر نشاطاً هي تلك الجديدة المذكورة، وبالترتيب - حسب نجاحاتها - تورنتو، ساندانس، ترايبيكا وبالم سبرينغز.
لكن سان فرانسيسكو يرفض أن يرفع العلم الأبيض ويقول (تصبحون على خير). مناسبته الخمسين هذا العام لم تشهد فقط إقبالاً أفضل مما شهدته أي من دوراته في السنوات العشرين الأخيرة، بل شهدت قراراً بدفع المهرجان مجدّداً إلى الأمام.
دارات
وكما أن السينما العربية غائبة هذا العام عن المهرجان الفرنسي، هي غائبة أيضاً عن مهرجان سان فرانسيسكو الدولي. هذا الا إذا اعتبرنا أن الحوار العربي القليل في فيلم (دارات) للتشادي محمد صالح هارون، كافٍ لاعتباره فيلماً عربياً. الحقيقة أن هذا هو أضعف مبرر لاعتباره فيلماً عربياً حتى ولو كان جميعه باللغة العربية، وذلك طالما أن المخرج والموضوع والإنتاج ليس عربياً.
يتحدّث فيلم (دارات) عن شاب من قرية تشادية صغيرة تقع في الصحراء كان ينتظر سماع قرار الحكومة بإصدار حكمها على المشتركين في جرائم الحرب الأهلية في البلاد. عوض ذلك تناهى إليه قرار العفو العام الذي صدر ما حفّزه لأن يقرر قتل الشخص الذي يعتبره مسؤولاً عن مقتل أبيه يساعده في ذلك القرار جدّه. الشاب آتيم يأخذ مسدساً يخفيه بين حوائجه وينطلق طالباً الثأر. لكن القاتل الآن صاحب مخبز طيّب القلب والمعشر يوزّع عند نهاية كل يوم الخبز على الفقراء الذين لم يكن بمقدورهم شراؤه. آتيم يطلب عملاً من العجوز المتزوّج من امرأة تصغره سناً، ويحصل عليه. وخلال عمله معه يبدأ بمراجعة نفسه والمرور بمشاعر مختلفة تجاهه تجعله حائراً في أمر تنفيذ خطّته من عدمها.
غياب عربي واضح
غياب السينما العربية يعود إلى أن إيماننا بها لا يزال في نطاق الحسابات الفردية لمخرجين وكتّاب وبضعة نقّاد. وفي حين أن التلفزيون يغزو البيوت بكل ما فيه من خير وشر (والشر فيه أكثر) الا أن موقفنا العام من السينما أنها - في أفضل الحالات - تجارة تشبه تجارة الملاهي (وفي بعض الدول العربية تُعامل كذلك). النتيجة هي أن أكثر من 300 مليون عربي ليس لديهم سينما جيّدة وجادة وذات رسالة إيجابية فنياً واجتماعياً، تكون دائمة ومتواصلة وتمثّلنا في المهرجانات كصوت إعلامي وثقافي جيد.
من ناحيته يعلم سان فرانسيسكو أنه قدّم الكثير من الأفلام العربية في تاريخه. يقول لي أحد المشرفين الإعلاميين: (خلال السنوات العشر التي عملت فيها مع المهرجان، قصدنا تغطية السينما العربية كجزء من برنامجنا الشامل للسينمات العالمية، وعرضنا بالفعل أفلاما لبنانية ومصرية وتونسية. لكن هذا العام هو عام ضحل على ما أعتقد. لم يلفت نظرنا اي فيلم يستحق العرض).