* إعداد - أشرف البربري
لما كانت اتجاهات الرأي العام تلعب دورا رئيسيا في رسم السياسة الأمريكية تجاه أغلب القضايا وفي مقدمتها الحرب الدائرة في العراق التي تحولت إلى حرب استنزاف للأمريكيين ماديا وبشريا فقد نشرت صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) تقريرا موسعا عن توجهات الرأي العام الأمريكي بشأن الحرب.
تقول الصحيفة إن تراجع التأييد الشعبي الأمريكي للحرب في العراق بدأ بعد أسابيع قليلة من اجتياح القوات الأمريكية للعاصمة العراقية بغداد وتحطيم تمثال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في قلب ساحة الفردوس بوسط العاصمة العراقية. ولكن منذ الخريف الماضي بدأ معدل تراجع تأييد الأمريكيين للحرب التي تخوضها إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش في العراق يتسارع بشدة مع انتشارك الشك في إمكانية تحقيق النصر ليشمل ليس فقط الديموقراطيين والمستقلين في الولايات المتحدة وإنما أيضا الجمهوريين الذين يسيطرون على البيت الأبيض.
وبعد أن عانت الأمة الأمريكية من تداعيات تلك الحرب التي اشتعلت منذ أربع سنوات جاء أحدث استطلاعات الرأي ليظهر أن نسبة الذين يشعرون بالأسف بسبب قرار الحرب يتجاوز نسبة الذين يؤيدون القرار بمقدار 14 نقطة مئوية. ويقول خبراء استطلاعات الرأي العام أن تسارع وتيرة تراجع تأييد الحرب في العراق ارتبط بتقرير مجموعة دراسة العراق وهي تلك اللجنة غير الحزبية التي شكلتها الإدارة الأمريكية لدراسة الموقف الراهن في العراق والتي انتهت إلى القول بأن عملية تحرير العراق من حكم صدام حسين انتهت إلى ما يشبه الحرب الأهلية وهو ما يعني تلاشي أي أمل تقريبا في تحقيق النصر الأمريكي المنتظر.
ويفسر البعض تراجع الدعم الشعبي للحرب في الولايات المتحدة بضعف الإرادة الشعبية الأمريكية وغياب الإصرار والعزيمة عن الشخصية الأمريكية في حين يرى البعض أن سبب التراجع هو فقدان الثقة في إدارة الرئيس بوش نفسها.
ويقدم خبراء الرأي العام رغم ذلك صورة دقيقة مشيرين إلى أن الرأي العام يعيد باستمرار تقييم نتائج الحرب في العراق ويرى ما إذا كانت تكلفة مواصلة الحرب أصبحت أعلى مما يمكن أن يتم الحصول عليه من الحرب.
حرب أهلية
وهذه النتيجة توصلت إليها عضوة في الحزب الجمهوري وتدعى كاثي كاير من هوتشيسون بولاية كانساس الأمريكية وهي خلاصة توصل إليها الكثير من الأمريكيين وتقول: (أعتقد أن حربا أهلية تدور هناك وهذا يجعلني حزينة للغاية).
وقد أصبح حوالي 55 في المئة من الجمهوريين في الولايات المتحدة يؤمنون بهذه القناعة وفقا لاستطلاع رأي أجري في يناير الماضي.
وتقول جاير التي تحدثت ثلاث مرات عن دعمها لابنتها التي تخدم كطيار لطائرة مروحية في العراق (كنت أكثر إيمانا بأن الحرب صحيحة تماما عندما كانت ابنتي هناك).
ولكنها الآن بدأت تعيد حساباتها ولم تعد ترى أن غزو العراق كان قرارا حكيما وهو تغيير تم ببطء شديد وبدون وعي. تقول جاير (كنت اعتقد أن الحرب كانت القرار الصائب لفترة طويلة ولم أكن انظر إلى الأدلة الواضحة على فشلها. فلم أكن أريد أن أتخلى عن الإدارة الأمريكية في هذا الموقف) ولكنه حدث.
وتقول السيدة الأمريكية جاير إنه كان لديها بعض التحفظات على الأسباب التي روجتها الإدارة الأمريكية للحرب ولكنها أيدت قرار الرئيس بوش (لأنني كنت أعتقد أنه يعلم أكثر مني).
ولكن الديموقراطيين والمستقلين الأمريكيين الذين كانوا يؤيدون الحرب في البداية كانوا أقل ثقة في الرئيس الأمريكي ولذلك فإن تراجع تأييدهم للحرب كان أسرع.
انقسام الرأي الأمريكي
ولكن جاري جاكوبسون أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا بسان دييجو يرى أن انقسام الرأي العام على أساس
حزبي بشأن الحرب في العراق ساعد الرئيس الأمريكي جورج بوش في وقت من الأوقات لكي يبرر قراره بشن الحرب اعتمادا على هؤلاء الذين يثقون في قيادته.
ويضيف جاكوبسون (إن هناك انقساما هائلا على أسس حزبية بشأن الحرب. وهذا الانقسام أكبر بشأن هذه الحرب وهو الأكبر من نوعه تجاه أي صراع عسكري خاضته أمريكا في وقت سابق منذ الحرب العالمية الثانية).
ويشكل الجمهوريون حاليا شريحة كبيرة من الأمريكيين الذين يؤيدون الحرب وتبلغ 40 في المئة مقابل 54 في المئة وفقا لاستطلاع الرأي الذي أجراه مركز بيو لدراسات الرأي العام في واشنطن. وحتى وقت قريب كان دعم الجمهوريين قويا للحرب في مواجهة دعوات الانسحاب من العراق الصادرة من المستقلين وقطاعات من الديموقراطيين.
وفي خطابه الأخير طالب الرئيس بوش الأمريكيين بالتحلي بالصبر. وقال إن مهمة مساعدة الحكومة العراقية في تحقيق أمن العاصمة بغداد سوف تستغرق شهورا وأن أقل من نصف قوة الدعم التي تقرر إرسالها إلى العراقي قد وصل إلى بغداد.
حماقة تأييد الغزو
ومن غير المحتمل أن يكون لنداء الرئيس بوش صدى لدى العديد من الأمريكيين أمثال كيث فريزر الذي تلاشى دعمه لقرار الحرب
منذ وقت طويل. يقول فريزر وهو جندي بحري سابق (لم أكن من المؤيدين بقوة للحرب ربما منذ العام الأول والآن فأنا عندما أنظر إلى الوراء أدرك كم كنت أحمق عندما أيدت قرار الغزو).
ولم يختر فريزر الرئيس بوش في الانتخابات الماضية ولكنه عشية انطلاق الحرب الأمريكية ضد العراق وجد نفسه في موقف المؤيد للحرب على أساس أنها يمكن أن تؤدي إلى إنهاء العديد من المواقف العالقة في المنطقة منذ حرب عاصفة الصحراء أو تحرير الكويت. كما أن العرض الذي قدمه وزير خارجية أمريكا السابق كولن باول أمام الأمم المتحدة الذي ربط فيه بين صدام حسين وهجمات 11 سبتمبر والحديث عن وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق ساعد في دعم موقفه المؤيد للحرب في ذلك الوقت.
ويضيف أن (عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق كان الضربة الأولى لإيمانه بصواب قرار الغزو. فما أن تسلل إلي الشك في صحة إدعاءات الإدارة الأمريكية بشأن هذه الأسلحة حتى اتسعت دائرة الشكوك لتشمل أشياء أخرى منها هل كان تنظيم القاعدة مرتبط بصدام حسين بالفعل كما زعم كولن باول؟ ونظل تتساءل عما إذا كانت كل الأشياء التي سمعتها كانت صحيحة؟
محاكمة بوش
أيضا أثر فشل الإدارة الأمريكية في العثور على أي أسلحة دمار شامل بالعراق على فرانك هيلتس وهو شرطي متقاعد. ففي بداية الحرب كان هيلتس يعتقد أن غزو العراق ليس فقط مبررا أخلاقيا وإنما أيضا كان ضروريا من أجل الأمن القومي الأمريكي والحرب ضد الإرهاب.
وبعد أن اتضح أنه لا توجد أسلحة دمار شامل في العراق تحول موقف هيلتس وهو غير منتمٍ لأي من الأحزاب الأمريكية وصوت لصالح الرئيس بوش في انتخابات الرئاسة عام 2000 من التأييد الحذر للحرب إلى الدعوة القوية لمحاكمة الرئيس بوش بتهمة خيانة الأمانة وطالب بالكشف عن الأسباب (الحقيقية) للحرب بالإضافة إلى اتهام الإدارة الأمريكية بسوء إدارة الحرب نفسها.
وأصبح الرأي لديه أن الإدارة الأمريكية ضللت عن عمد الرأي العام الأمريكي بشأن مزاعم أسلحة الدمار الشامل العراقية. وأدرك الجميع الآن أن هذا التضليل المتعمد كان السبب الرئيسي الذي دفع حوالي 54 في المئة من مؤيدي الحرب منذ أربع سنوات إلى تأييدها وفقا لاستطلاع الرأي الذي أجرته شبكة سي إن إن ومركز أبحاث الرأي العام منذ أسابيع قليلة. ويقول هيلتس إن الحرب الدائرة في العراق (لم تعد حربنا بعد الآن) وإنما هي حرب أهلية عراقية عراقية.
وطوال السنوات الأربع الماضية ظلت الأنباء الجيدة القادمة من العراق تعمل على زيادة التأييد الشعبي الأمريكي للحرب وإن كان بصورة مؤقتة. فمثلا اعتقال الرئيس الراحل صدام حسين ساعد في زيادة الدعم الشعبي ثم الانتخابات العامة العراقية ومقتل زعيم تنظيم القاعدة في العراق أبو مصعب الزرقاوي.
يقول المحللون إن هذا التحسن في مؤشرات الدعم الشعبي للحرب بعد كل إنجاز أمريكي يشير إلى أن الرأي العام الأمريكي يعيد باستمرار تقييم الموقف في العراق على أساس التكلفة والعائد. فعندما أجريت الانتخابات العراقية الأولى وتجاوز حجم التصويت والمشاركة التوقعات شعر الأمريكيون بالتفاؤل بشأن احتمالات قيام حياة ديموقراطية في العراق وهو ما تحول إلى تحسن في مؤشرات الدعم الشعبي للحرب في العراق.
تكلفة الحرب
يقول كريستوفر جلبي الأستاذ في جامعة ديوك الأمريكية والذي يدرس الرأي العام الأمريكي واستخدام القوة إن التفاؤل بشأن تحقيق تقدم يلعب دورا رئيسيا في حساب الرأي العام لتكلفة الحرب والعائد من ورائها.
ويضيف: (يزداد القلق بشأن تكلفة الحرب عندما يكون التقدم الذي يتحقق بسيطا ولكن القلق بشأن التكلفة يصبح أقل عندما يكون هناك تقدم ملموس.. ولكن المشكلة أن عدد الأحداث الجيدة كان قليلا جدا وجاءت في ظل تدهور مستمر في الموقف الأمريكي على الأرض بالعراق).
وحتى وقت قريب لم يكن لسيل الأنباء السيئة القادمة من الحرب في العراق تأثير كبير على هؤلاء المؤمنين حقا بالحرب.
ويتابع جلبي: (هؤلاء الذين يعتقدون أن الحرب فكرة جيدة لديهم نظرة أشد تفاؤلا بشأن التقدم الذي يتحقق أكثر مما هو حادث على الأرض بالفعل .. هذا التفاؤل بين الجمهوريين أنفسهم بدأ يتراجع بشدة منذ سبتمبر الماضي).
فقد تراجعت نسبة الأمريكيين الجمهوريين الذين يرون أن الحرب تسير على ما يرام من 77% إلى 51 % خلال العام الماضي وفقا لاستطلاع مركز بيو لدراسات الرأي العام. ووفقا لنموذج جلبي لدراسات الرأي العام فإن تراجع تفاؤل الجمهوريين يشير كم المشكلات التي تواجهها الإدارة الأمريكية بشأن مستويات دعم الجرب في المستقبل.
ولكن البعض يرى أن تأثير تلك الأنباء السارة يكون محدودا جدا وأن تزايد حجم الخسائر البشرية في صفوف القوات الأمريكية بالعراق يلعب الدور الحاسم في تحديد اتجاهات الرأي العام بشأن الحرب. ولكن البيت الأبيض ينظر بقليل من الارتياح إلى هذه الرؤية لأن التاريخ الأمريكي يقول إن الدعم الشعبي للحرب يتراجع كلما ارتفع حجم الخسائر البشرية.
مسارات متشابهة
والحقيقة أن اتجاهات الرأي العام بشأن الحرب في العراق وحرب فيتنام وقبلهما الحرب الكورية تسير في مسارات متشابهة على حد قول جون موللر مؤلف كتاب (الحرب والرؤساء والرأي العام). فرغم أن الحرب في العراق تشهد عددا أقل من حيث الخسائر البشرية مقارنة بالحربين السابقتين فإن التراجع في التأييد الشعبي لها يسير بنفس وتيرة التراجع في الحربين السابقتين. ويفسر موللر هذا التناقض بالقول إن هذا يعني أن الرأي العام الأمريكي يعتبر الحرب في العراق أقل أهمية من الحرب في فيتنام والحرب الكورية ولذلك يبدي قدرا أقل من التسامح تجاه الخسائر التي يتكبدها الشعب الأمريكي.
ولكن القلة التي مازالت تؤمن بقوة بالحرب في العراق مازالوا يرون لها معنى أعمق. ومن هؤلاء سائق الشاحنة بريان جرين من ولاية فلوريدا الذي صوت لصالح الرئيس بوش في الانتخابات الرئاسية عام 2000 و2004 ومازال يؤيد جهوده في الحرب ضد الإرهاب وهي الإطار الأشمل الذي ينظر من خلاله جرين إلى حرب العراق أيضا.
يأمل جرين في نجاح مهمة الرئيس بوش في العراق وتحقيق الاستقرار هناك وسحب الجزء الأكبر من القوات الأمريكية في العراق بعد ذلك. وهو يقول إنه مازال يؤمن بأن قرار الحرب كان قرارا صائبا تماما.
وأكثر من يثير حماس جرين لدعم الحرب هو ذلك الإصرار الذي يتحلى به الرئيس بوش من أجل اتمام مهمته في العراق. ويقول جرين (إن الناس تنسى خطورة الأمر .. واليوم أصبحت المسألة مرتبطة بالشعبية بين هؤلاء الذين يكرهون بوش أكثر وهذا النوع المقزز من السياسيين).