|
الافتتاحية من يداوي هذا الجرح..؟!
|
وجوه شاحبة..
وأجسام أنهكها التعب..
يتسكعون في الشوارع..
وأمام إشارات المرور..
بأثيابهم الرثة..
ومظهرهم المثير للشفقة والحزن..
***
سحنات بعضهم لا توحي بأنهم من السعوديين.. وهناك على ما يبدو تآخٍ فيما بينهم لممارسة التسول على نحو ما نراه عند إشارات المرور..
دون وجود رقيب أو حسيب..
أو سلطة تحول بينهم وبين هذا التعود غير المستحب للبحث عن لقمة العيش..
***
لا توجد عندي إحصاءات بأعدادهم..
ولا تتوافر بين يديَّ معلومات عن جنسياتهم..
وأكاد أجزم أن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ليست هي الأخرى بأحسن حالاً مني..
وأنه قد أعياها التعب من ملاحقتهم..
ودب بمسؤوليها اليأس من جدوى الاستمرار في مطاردتهم..
فتوقف جهدها حيث هو الآن..
ومن ثم تكاثر المتسولون بشكل لافت ومخيف..
***
هل توجد دراسات لتطويق هذه الحالة المسيئة للوطن؟..
وهل هناك جهود تبذل للحيلولة دون استفحال هذه الظاهرة؟..
هل كل هؤلاء الذين يمدون أيديهم لنا لهم الحق في زكوات القادرين منا ومساعداتهم؟..
وهل هذا البؤس الذي نراه على وجوه هؤلاء المتسولين ومظهرهم حقيقة أم مصطنع وادعاء؟..
لا أدري..
وأكاد أجزم أن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية مثلها مثلي!!..
***
وأسأل بعد كل هذا :
بماذا نفسر هذا الذي نراه في طفل لم يبلغ العاشرة من عمره وهو يمد يده مستجدياً ومتوسلاً لكل منا؟..
ومن مسن قد تجاوز السبعين من عمره ويخطو نحو الثمانين وقد اضطر أن يذل نفسه بفعل حاجته ربما إلى شيء من نقودنا؟..
وماذا نقول عن فتاة في مقتبل العمر وهي تقضي ليلها عند إشارات المرور مع رضيعها بأمل أن نجود لها بشيء يعالج مأساتها ويساعدها وصغارها في هذه الحياة؟..
***
شهر رمضان على الأبواب..
ومعه تزداد أعداد هؤلاء..
ولابد من نفرة لمعالجة الفقر ومساعدة الفقراء..
والتصدي لآثاره المدمرة..
وذلك بتلمس متطلبات البؤساء في مجتمعنا ومن ثم تحقيقها لهم..
وبمثل هذه المعالجة لن نرى بحول الله ظاهرة التسول في شوارعنا..
وستختفي هذه الوجوه الشاحبة..
وستغيب مشاهد الألم عن أنظارنا..
وعندئذٍ سنحتفظ لهؤلاء بكراماتهم وآدميتهم وإنسانيتهم..
ونبقي الوطن نظيفاً من تشويه مصطنع ومفتعل في جزء منه..
***
والسؤال:
أليس هؤلاء هم الأحق بمساعداتنا وزكواتنا؟
بلى والله!!.
خالد المالك
|
|
|
رحيله خسارة غادحة كتاب «نهاية عملية السلام» إدوارد سعيد..الاشجار تموت واقفة!
|
* إعداد محمد الزواوي
كان ذلك منذ 12 عاماً عندما اتصل بي إدوارد سعيد في وقت مبكر من ليلة صيفية، ليخبرني أنه تم تشخيص مرضه على أنه مرض سرطان الدم «اللوكيميا». لم تكن هناك أية نبرة حزينة أو خافتة، لم يكن هناك خوف في صوته، فقط كان هناك دهشة وغضب، لقد قال لي: «تخيلي ماذا كان التشخيص؟؟ إنها اللوكيميا الخبيثة، من الواضح أنني أحتضر». فرددت عليه: «لا. لا يمكن أن تكون في حالة احتضار».
بهذه السطور تحدثت الروائية العالمية اهداف سويف عن ادوارد سعيد، وقالت: إن خسارتنا فيه لا يمكن أن توصف، لقد كان إدوارد صديقي على مر 22 عاماً، وقد بدأت تلك الصداقة بطريقة مشابهة لإدوارد نفسه، فقد سمع أنني كنت في نيويورك، وكان قد قرأ أول قصة نشرت لي، واتصل بي هاتفيا ودعاني وزوجي إلى العشاء في منزله، وقد قابلنا زوجته مريم ووديع ونجلاء أولاده وبعض المدعوين، وفي نهاية الأمسية وقف على باب المصعد وتصافحنا بالأيدي، ومنذ ذلك الحين أصبحنا صديقين حميمين.
والآن أقول لنفسي، تتابع اهداف سويف، إنه كان في الثامنة والستين من العمر، كان لديه أسرة رائعة، وكان يرى أبناءه يكبرون أمام عينيه وكان يشعر بسعادة بالغة وفخر بهم، وقد ترك لنا أعماله، واستطاع التأثير على ملايين الناس عبرالعالم، وفي النهاية أتى إليه الموت كما سيأتي إلينا جميعا، ولكن هذا كله لم يفلح في تعزيتي في فقدانه.
وتضيف قائلة: أنا لا أستطيع أن أتحدث عن حجم الخسارة التي يشعر بها أفرادعائلته، ولكن بالنسبة لنا نحن أصدقاءه، فقد أصبحنا جميعا يتامى.. فماذا سنفعل بدونه؟ لقد أشعرنا جميعا بالحب والاهتمام والولاء والسحر في صداقته، واستطاع أن يبقي على كل تلك المشاعر طوال صداقتنا، لقد كان دوما مستعدا للمساعدة قبل حتى أن تعلم أنك في حاجة إلى المساعدة، وعندما أخبرته في رأس السنة الماضية أنني ذاهبة إلى روما أعطاني رقم هاتف وقال لي: «اتصلي بها، إنها امرأة رائعة، سوف تحبينها»، فقد كانت معلمة الموسيقى الخاصة به من القاهرة، وهي صديقته منذ أكثر من نصف قرن، وقالت إنها لم تفقد الاتصال بها أبداولا أستطيع وصف عدد أصدقائه إلا بعبارة: «إدوارد وأصدقائه الثلاثة آلاف المقربون».
وتقول اهداف سويف عن ادوارد سعيد: عندما تكون معه دائما ما تشعر أنك متفرد، فهو كان يلاحظ إذا ما قمت بتغيير تسريحة شعرك، ويقوم بالتعليق على طريقة لبسك للثياب، كما يعلق على الطعام الذي تختاره، ومؤخرا عندما كنت في سيارتي قال لي ضاحكا: «لو سمحت هل يمكن أن تغلقي هذه الموسيقى المزعجة؟» مشيراً إلى أغنية لمغن مصري يحظى بشهرة حالية، ثم تحول إلى مازحا: «إذا كنت تحبين تلك الأشياء فكيف تتحملين البعد عن القاهرة !؟».
وكانت تلك هي مقاييسه للصداقة بلا حدود، فعندما كنت وحيدة في ليلة ما منذ عامين بعدما وصلني تشخيص مرض زوجي على أنه سرطان الرئة عبر الفاكس، كان أول من لجأت إليه هو إدوارد في نيويورك، وتحدث لي في ذلك الوقت وأعطاني أرقام هواتف لأطباء ومراكز طبية وأصدقاء كانوا مرضى بهذا المرض، وعندما اتصلت بهم وجدته قد اتصل بهم بالفعل، وأوصاهم مرة ثانية بأن «اعتنوا بها».
وفي آخر اللقاءات العامة التي حضرتها معه، في مدينتي برايتون وهاي، كان الناس يتدافعون من أجل مصافحته، وضحك قائلا: «أنت تعرفينني؛ إنني رجل ديماجوجي قديم، أستطيع التأثير واستغلال مشاعر الناس».
ولكنه لم يكن كذلك على الإطلاق، فقد كان قدوة ومثلا، فقد كان دوما إنسانا وعادلا وصريحا وشاملا، سواء في المحادثات الخاصة معه أو على الملأ، وفي إحدى المناظرات التي جرت مؤخرا تساءل بعدها: «ما الذي جرى لهؤلاء الناس!!.
لماذا لم يعد الناس يقولون الحقيقة أو يتحدثون عن العدل؟» ولكنه كان يؤمن دائما أن الناس البسطاء في كل أنحاء العالم لا يزالون يهتمون بالحقيقة والعدل، وتختتم اهداف سويف بالقول: لقد أصبحت حياتي وحياة كثير آخرين أكثر تعاسة بدون وجود إدوارد سعيد.
ناقد أدبي مرموق
وإدوارد سعيد الذي مات عن عمر يناهز السابعة والستين يعتبر واحدا من كبارالنقاد الأدبيين في الربع الأخير من القرن العشرين، وكأستاذ للغة الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا بنيويورك، كان يعتبر من أكبر الممثلين لمدرسة ما بعد البنيوية في الولايات المتحدة، كما أنه كان من أفصح وأشهر المدافعين عن القضية الفلسطينية، وقد أكسبه موقفه هذا العديد من الأعداء.
وتوسع إدوارد سعيد في الاتجاهات الأدبية المختلفة إضافة إلى عشقه للموسيقى جعل من الصعب تصنيفه، وقد تميز أشهر كتبه «الاستشراق» الذي صدر عام 1978بأنه أدى إلى المساعدة في تغيير اتجاه العديد من القضايا الفكرية، بعدما كشف فيه عن التعاون غير الشريف بين حركة التنوير والاستعمار، وكمؤيد للمذهب الإنساني، فقد بدا للكثيرين أن انتقاداته للتقاليد العريقة لحركة التنويرالغربية تناقض نفسها.
يقول ماليز روثفن المحرر الادبي بصحيفة «الجارديان »: تأثير سعيد لم يكن محصورا في المناطق الأكاديمية والعلمية؛ فهو مفكر ونجم لامع في أمريكا، وقد استطاع أن يميز نفسه عن الآخرين بأنه ناقد للأوبرا، وعازف على البيانو، ومن المشاهير التلفزيونيين، وسياسي وخبير إعلامي، وكاتب مقالات شعبي ومحاضرعام.
ومؤخرا كان أحد أشد النقاد لاتفاقية أوسلو للسلام وللقائد الفلسطيني ياسرعرفات، وأطلقت عليه المجلة اليمينية الأمريكية Commentary لقب «بروفيسورالرعب» عام 1999. أثناء صراعه لمرض اللوكيميا، وقد اتهمته المجلة ذاتها بتزييف صورته كلاجئ فلسطيني من أجل تحسين موقفه كمؤيد للقضية الفلسطينية، كما اتهمته بأنه يزعم زورا بأنه كان في مدرسة في القدس قبل إكمال تعليمه في الولايات المتحدة.
اللوبي اليهودي
والعداء الذي واجهه سعيد من الدوائر الموالية لإسرائيل في نيويورك كان متوقعا بسبب هجومه اللاذع على الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني، وإدانته الصريحة للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، كما واجه انتقادات من الجانب الآخر في هذا الصراع، من الفلسطينيين الذين اتهموه بالتضحية بالحقوق الفلسطينية عن طريق تقديم تنازلات غير مبررة للحركة الصهيونية.
ففي أوائل عام 1977. عندما بدأ بعض الفلسطينيين يذعنون بأن لليهود حقوقا تاريخية في فلسطين، قال: «أنا لا أنكر مطالبهم، ولكن مطالبهم دائما ما تستلزم طرد الفلسطينيين»، وقد أيد انتقاداته المضادة للاحتلال الإسرائيلي بتوضيحه للشخصية اليهودية المعقدة والمركبة بسبب اضطهادها القديم في أوروبا، وماتلاه من تأثير كبير للحركة الصهيونية على الضمير الأوروبي.
وقد أكد إدوارد سعيد أن استثناء إسرائيل من المعايير الطبيعية التي تحكم الدول يرجع في الأصل إلى المحارق النازية أو الهولوكوست، وبينما يعترف بالتأثيرالهام للهولوكوست على اليهود، فإنه لم ير سببا لربط جراح وآلام ورعب اليهود بحرمان الفلسطينيين من أرضهم، وأن يتم استغلال ذلك لطرد ذلك الشعب الذي «لاعلاقة له على الإطلاق فيها حدث في أوروبا بكاملها» لحرمانهم من حقوقهم.
وقد كتب في كتابه «سياسات التجريد» عام 1994: «إن السؤال الذي يطرح نفسه هو: حتى متى يمكن أن يتم استغلال تاريخ معاداة السامية والهولوكوست كسور لاستثناء إسرائيل من النقاشات والعقوبات ضدها نتيجة سلوكها ضد الفلسطينيين؟ تلك العقوبات التي استخدمت في السابق ضد الحكومات القمعية الأخرى مثل جنوب إفريقيا؟ حتى متى سنستمر في إنكار أن بكاء الشعب الفلسطيني في غزة سببه المباشر هو سياسات الحكومة الإسرائيلية ولا علاقة له على الإطلاق ببكاء الشعب اليهودي ضحايا النازية؟».
المجلس الوطني الفلسطيني
انتخب في عام 1977 عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، ولكن إدوارد سعيد كمفكر مستقل رفض المشاركة في الصراعات بين الفصائل الفلسطينية، في الوقت الذي استغل فيه سلطته لعمل تدخلات استراتيجية في المجلس، فقد رفض سياسة النزاع المسلح واعتبره شيئاً لا يمكن الموافقة عليه، بسبب التركة الثقيلة التي خلفتها المحارق النازية والظروف الخاصة للشعب اليهودي، وكان من أوائل المناصرين للحل الذي يقضي بوجود دولتين، وقد اعترف بوضوح بحق إسرائيل في الوجود، وقد تبنى المجلس الوطني الفلسطيني ذلك المبدأ في لقاء عقد في الجزائر عام 1988.
وفي أثناء تعديله للنص الإنجليزي لمسودة النسخة العربية من ذلك الاعتراف، استغل سعيد نفوذه في إعادة صياغة النص العربي، وبالرغم من أن تعديلاته لم تكن كافية لإرضاء إدارة الرئيس ريجان في ذلك الوقت، والتي انتهت بإملاء كلمات حاسمة جاءت على لسان عرفات في خطبته أمام الجلسة الخاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة (التي عقدت في جنيف لأن وزارة الخارجية الأمريكية رفضت منح ياسر عرفات تأشيرة دخول الولايات المتحدة لحضور جلسة الأمم المتحدة في نيويورك).
ومن المؤكد أن كفاح إدوارد سعيد الطويل في وسائل الإعلام الأمريكية، وتوضيحه أن هذا الإعلان من الفلسطينيين انطوى على «تنازلات تاريخية» من جانب الفلسطينيين تجاه الدولة اليهودية، قد فتح الباب على مصراعيه أمام الحوار الأمريكي الفلسطيني، والذي قاد في النهاية إلى مؤتمر مدريد ثم اتفاقية أوسلو للسلام.
ومع بدء تسليط الضوء على عملية السلام اتجه إدوارد سعيد اتجاها معارضا للسلطة الفلسطينية عندما استقال من المجلس الوطني الفلسطيني عام 1991. وقال إن اتفاقية أوسلو كانت منحازة بصورة ظالمة إلى إسرائيل، وأن ذلك السيناريو الذي يقضي بانسحاب إسرائيل من غزة وأريحا قبل المقاطعات الأخرى إضافة إلى اتفاقية الحل النهائي في القدس كان بمثابة «أداة الاستسلام الفلسطينية، أومعاهدة فرساي الفلسطينية» كما وصفها في ذلك الوقت.
الطفولة والشباب
ولد سعيد في القدس لعائلة فلسطينية كبيرة، وأبوه وديع كان مسيحيا هاجر إلى الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى، وقد تطوع للخدمة العسكرية في فرنسا وعاد إلى الشرق الأوسط كرجل أعمال مرموق يحمل الجنسية الأمريكية.
وقد وصف في كتابه «خارج المكان» (1991) ذكريات طفولته وشبابه، ووصف سعيد أباه وديع الذي غير اسمه إلى وليام للتأكيد على هويته الأمريكية التي تبناها في صورة أب متسلط لا يقبل الحوار أو النقاش، وقد غرست صرامته في سعيد «شعورا عميقا بالخوف العام»، والذي قضى معظم حياته في محاولة التغلب عليه، وقال في كتابه: «لم يكن لدي أي مفهوم للتسلية أو الاسترخاء، وبخاصة لم يكن لدي أي شعور بالإنجاز المتتالي؛ فكل يوم بالنسبة لي كان بمثابة بداية فصل دراسي جديد: يسبقه صيف طويل خاو، ويتلوه يوم مجهول»، ولم يكشف والد سعيد الكثير عن نفسه أو عن مصادره المالية، ومن الواضح أنه لم يكن بحاجة إلى سعيد أو أختيه، فقد كان يسافر مع حاشيته من الخدم يقضي الصيف في مزرعة ظهر الشوير في لبنان (بعد عام 1947)، مستمتعا بالأطعمة الفاخرة في الطائرات عبر الأطلنطي، وقد وصف إدوارد سعيد أمه التي كان يحبها بشدة بانها ذكية وعصبية المزاج ويصعب إرضاؤها، وتعطيك دائما انطباعاً أنها «قد حكمت عليك ووجدتك غير كفء». ولكنها غرست فيه حب الأدب والموسيقى، واسم سعيد الأول «إدوارد» من المستبعد أنه مستوحى من اسم أمير ويلز، ولكنه كان من اختيار أبويه.
وكما قال سعيد فإن اسمه الأعجمي أدى إلى انقسام في وعيه في سن المراهقة حول هويته، بين «إدوارد» أو ذاته الخارجية، وبين «حياتي الداخلية غير المستقرة وغير المسئولة، التي تقودها خيالات وأوهام ممسوخة»، وقد وصف نفسه في أولى مراحله الدراسية في مدرسة «فيكتوريا كوليدج» بالقاهرة بأنه كان ذكيا وثائرا، وقد كانت مدرسته تنتهج النهج البريطاني في التدريس، وكان زعيم المتكبرين في المدرسة زميله ميشيل شلهوب، والذي اشتهر بعد ذلك في عالم السينما باسم عمر الشريف.
وتحت إصرار والده تم إرساله إلى مدرسة «ماونت هيرمان» الخاصة في ولاية ماساشوستس الأمريكية، وهناك ترعرع أكاديميا، ولكنه افتقد إلى السلوك السليم ليظهر في صورة الطالب غير العادي، وقد استجاب بصورة إيجابية للتوجه الأمريكي في كتابة المقال، والذي وجده أكثر إبداعا ونشاطا من الأسلوب البريطاني «الخجول» الذي كان يمارسه في القاهرة.
والتباين في أسلوبي نشأته الأكاديمية وغياب الاعتراف الرسمي به قد أثرا فيه بوضوح، وقال أن تجربته في الكتابة إضافة إلى أعمال المفكرين الكبار أمثال ر.ب. بلاكمور وأنطونيو جرامشي وتيودور أدورنو وريموند وليامز وميشيل فوكالت، أدى إلى التأثير في نظرته المعادية للأوتوقراطية وحكم الفرد.
وعلاقة إدوارد سعيد بفلسطين ترجع إلى جذور عاطفية عميقة، وبخاصة تأثره بعمته نبيلة في القدس، والتي كرست حياتها بعد عام 1948 لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين في القاهرة، بالرغم من أنها لم تناقش أية مفاهيم سياسية في وجود إدوارد.
وعند بلوغه سن الثلاثين، كان إدوارد شغوفا للغاية بدراسته، وكان يتقدم بسهولة في جامعتي برينستون وهارفارد للدراسات العليا، وقام بتطوير أسلوبه النقدي وأغرق عاطفته في حب الموسيقى وبخاصة البيانو، والذي وصل فيه إلى مستويات احترافية عالية، ثم بعد ذلك خصص اهتمامه بسياسات وطنه الأم، ثم جاءت بعد ذلك النكسة وجراح هزيمة عام 1967، والتي نتج عنها موجة ثانية من اللاجئين (كان معظمهم من اللاجئين الذين خرجوا عام 1948)، والتي صدمته بشدة مما ربطه ثانية بذاته القديمة.
وكتابات سعيد في الأدب الإنجليزي مثل «الثقافة والإمبريالية» (1993). والموسيقى الكلاسيكية الغربية ترجع بشكل كبير لشعوره بأنه أجنبي، ومثل جوزيف كونراد كان موضوع رسالة الدكتوراه وأول كتبه المنشورة يمثل «شعور دائم ومهيمن وغيرعادي بأنه منفي وهامشي»، وبذلك استطاع أن يأتي برؤى مزدوجة من قراءاته للقصص الإنجليزية، مبرزا الأهداف الخفية للاستعمار التي تضمن له الاستقرار الإقليمي كما في قصة مانسفيلد بارك، أو في نماذج الأسلوب السردي الواعي لكونراد والشعور بكوامن التحديات التي تمثلها الهيمنة الغربية والتي يمكن أن تندلع في مرحلة ما بعد الاستعمار.
وربما كانت من ضمن إنجازاته هو تهذيب الفهم الفني بلفت الأنظار إلى الأبعاد السياسية غير المعلنة في الأعمال الفنية، وفي مقال رائع له في مجلة «دايميستير زاينر» عارض فيها مبدأ معاداة السامية لفاجنر، قال مقتبسا من تعليقات بوليز أن «موسيقى فاجنر من أساسها ترفض أن تحمل أي رسالة أيدلوجية نوى فاجنر أن تحملها موسيقاه».
ويمكن قول الشيء ذاته عن أعمال سعيد كناقد، فرؤيته المعادية للاحتلال والتي تحرك جميع أعماله لا يمكن تطبيقها على التماسك الأيدلوجي، ففي المقابل، فإن رؤيته تتحدى الافتراضات التقليدية عن الفن والموسيقى والأدب، مما يفتح مجالا جديدا من البحث والتساؤل في المعايير التي يتم تنظيم ورعاية المعرفة بها، وقد كان سعيد مثله مثل قدوته تيودور أدورنو «المفكر المثالي الذي يكره كل النظم والقيود، سواء في الداخل أو في الخارج، بدرجة متساوية».
وإدوارد سعيد كفنان متعدد المواهب ودقيق كان بارعا في عملية توضيح الاختلافات أكثر من إرساء النظم والقواعد، وكمفكر إنساني كان يحترم الإسلام، وكان أحد أفراد النخبة الأكاديمية، ولكنه كان ضد الاحتراف الأكاديمي، كما خاض في مجالات كثيرة خارج نطاق تخصصه، وكثيرا ما كان يصر على أن دور المفكر الحقيقي يجب أن يكون دورا هاويا وليس محترفا، وذلك لأن الهاوي هو الذي يتحرك ويتفاعل ليس فقط من أجل الجوائز أو المكافآت ولا من أجل متطلبات مهنته، ولذلك هو أقدر على التعامل مع الأفكار والقيم.
والتركيبة غير العادية لخلفيته الثقافية أعطته ميزة عن الآخرين، ولكنها همشته في المقابل، ربما جعلته غنيا ولكنه بلا سلطة، وقد مكنته من التعامل مع المهجرين والمهمشين، وبخاصة ضحايا الصهيونية وضحايا الغرب الذي يؤيد تلك الصهيونية، وقد كان يستمتع إلى أقصى حد بالكنوز الثقافية لمدينة نيويورك، تلك المدينة التي تزخر بانتصارات وإنجازات اليهود أكثر من أي مدينة أخرى.
وفي سنواته الأخيرة، أصبحت صحة سعيد أكثر تدهورا، وبالرغم من أنه كان حريصا على عدم نسيان القضية الفلسطينية بعد أحداث سبتمبر والغزو الأنجلو أمريكي للعراق، فقد اتخذ قرارا بأن ينسحب من الجدل السياسي وأن يوجه طاقاته إلى الموسيقى، وقد نشأت الأوركسترا الشرقية الغربية التي كونها مع المواطن الإسرائيلي دانيل بارينبويم عام 1999 الذي يشاركه في اعتقاداته الفنية، وبخاصة في موسيقى فاجنر، وتفوقت تلك الأوركسترا على الأيدلوجيات السياسية. وبمساعدة سعيد، أعطى بارينبويم دروسا للطلبة الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، وهو ما أغاظ اليمين الإسرائيلي.
وقد استقبلت تلك الأوركسترا بتغطية صاخبة في برامج البي بي سي الشهر الماضي، وربما تثبت أنها تركة ملائمة لمفكر أضاءت أعماله عالمنا الذي تقوده الكوارث، بتبنيه تناقضات ذلك العالم والاحتفاء بتعقيداته، وقد تزوج إدوارد سعيد من مريم كورتاس ولديه منها ابن وابنة.
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|