|
الإفتتاحية مجلة الجزيرة في عددها الثالث
|
هذا هو العدد الثالث من مجلة "الجزيرة"..
الإصدار الذي استقبلتموه بحفاوة..
وأشدتم به كإصدار مميز..
وقلتم فيه من الثناء ما لا نستطيع نحن أسرة التحرير أن نقوله عنه..
* * *
إنه العدد الجديد والثالث من مجلة الجزيرة..
بمضمونه وإخراجه وما استجد فيه..
يحاول الزملاء أن يكون مستوى المجلة مواكباً مع ما يتقد من طموح في كل واحد منهم..
وأن يكون هذا الإبهار في عمل صحفي كهذا متواصلاً ومستمراً وصولاً إلى ما هو أفضل..
* * *
المجلة لا تزال في بداياتها..
وهذه قناعة كل الزملاء..
وهم يعدونكم بمشروع صحفي أكثر تميزاً مما هي عليه مجلة الجزيرة الآن..
إنهم باختصار يتجهون إلى الابتكار لا إلى المحاكاة في إصدار مجلة الجزيرة وهذا هو التحدي..
ويقولون: إن العدد الأول ثم الثاني وهذا العدد الذي بين أيديكم لا تعدو أن تكون البداية لهذا المشروع الصحفي الكبير..
* * *
اطمئنوا إذاً..
فمجلة الجزيرة لن تكون محاكاة لمثيلاتها..
وبالتأكيد لن تكون مثل غيرها..
وملامحها ومظهرها وموادها تنطق بما لم نقله عنها..
* * *
المهم أن يستمر الزملاء على هذا المستوى من الحماس والتصميم.. وأن تكونوا كقراء العين التي تراقب وتكشف لنا مكامن الخلل إن وجد لنعمل على تلافيه..
* * *
بقي أن أذكِّركم بأن شعارنا وشعاركم..
الجزيرة تكفيك..
خالد المالك
|
|
|
دعا لها البابا.. واتبعه الغوغاء حملة الصليب.. ظاهرها الدينىوباطنها المال
|
قالوا عن الحملات الصليبية انها أوضح دليل على تعقد "العلاقة" بين شرق العالم وغربه.. ونقول "علاقة" تجاوزا وترفعا في الحديث.. فالأجدى أن نقول "الصراع".. نعم.. فالتاريخ يثبت لنا أن محاولات القفز على الدين والفوارق الثقافية والحضارية والاجتماعية بادعاء أن الأسرة الإنسانية جميعها أسرة واحدة.. كلها محاولات سخيفة تنافي العقل والمنطق ولا تفرز سوى الأحقاد والأكاذيب التي تفضي بدورها إلى أكثر الصراعات دموية وإهدارا للكرامة الإنسانية.. والحجة؟ هي حقبة تاريخية لن تنساها أبدا ذاكرة البشر، شرقا أو غربا، فمن عام 1095م وحتى عام1291م، كانت مفردات اللغة المتبادلة بين قطبي العالم آنذاك هي الدم والاغتصاب.. وحين يموت الضمير ونطفة الخير داخل الإنسان، أي إنسان، ثم يقدم على اللعب بأمور أخرى لتحقيق مآربه وإشباع غرائزه.. توقع أن تتجرع من المرارة والبؤس وأصناف العذاب كؤوسا إن أفرغتها في البحر.. فاض..
لا تصدق أي كائن، مهما أوتي من العلم أو السلطة، يقول لك ان الحملات الصليبية التي اندلعت جذوتها الأولى في الغرب "بعد الخطبة الشهيرة التي ألقاها البابا اربان الثاني في كليرمون" ودارت رحاها على أرض الشرق.. كان سببها الرئيسي الدين، صحيح أن الصليب كان هو شارة المعتدين، والبابا أربان الثاني هو ملهمها، وقبر المسيح وجهتها، وطرفي الصراع شرقي مسلم في مواجهة غربي مسيحي.. كل هذاصحيح، لكن التاريخ يعلمنا دائما أن النوايا الخفية التي تغذي الأحداث وتطورها تختلف كثيرا عما يطفو على السطح.
إن خطورة الزج بورقة الدين ورفعها كأساس الصراع الذي اندلع في أوائل القرن الحادي عشر ميلاديا واستمر حتى أواخر القرن الثالث عشر يضع العالم الإسلامي في تلك الفترة موضع المتهم الذي يحاول الدفاع عنه نفسه "وكأنه كتب على المسلمين رفع تهمة الإرهاب عن أنفسهم"، فالمؤرخ الغربي يحاول دائما التأكيد على أن الحملات الصليبية ما كان ليحركها سوى اعتداء المسلمين على المسيحيين، سواءالمقيمين في المشرق العربي أو الذين يفدون إليه كل عام، الادعاء هنا باطل ومردود، ولجملة أسباب تاريخية وسياسية:
أولا: استغل البابا أربان الثاني مكانته في نفوس الدهماء والعامة من مسيحيي الغرب وحاول إلهاب صدورهم ضد الشرق بإدعاء الاضطهاد الديني، هذا في الوقت الذي لم تكن أوربا قد غسلت بعد يدها من عار الدم الذي أريق بهدف فرض الديانة المسيحية على من لا يدين بها، فالإمبراطور قسطنطين الأول كان من أكثر حكام العصور الوسطى مهارة في دق الأعناق وتطييرها بالسيوف "يقول المؤرخون انه كان يلجأ أحيانا إلى وضع أجساد المضطهدين في قدور من المياه التي تفور غليانا".
ويأتي القرن الثامن الميلادي بكبير الطغاة شارلمان الثامن الذي ذاق على يديه السكسون والبافاريون أشد صنوف العذاب وأكثرها وحشية "يذكر التاريخ في ذلك مذبحة فردن الشهيرة، وفيها ذبح شارلمان، كما يقول المؤرخون، في ليلة واحدة أربعة آلاف فرد ذبح النعاج"، حقائق قاسية، ويصعب على العقل أو حتى الخيال تصورها، لكنها وقعت.
ثانيا: أطلق المؤرخون على العصور الوسطى الأوربية "عصور الإيمان"، وترجع التسمية إلى هذا السلطان الهائل الذي ملكته الكنيسة الكاثوليكية على نفوس البشر، حتى الملوك والأباطرة، وكانت هي اليد الخفية التي تحرك الأحداث من الكواليس الخلفية، وعندما وقف البابا اربان الثاني في مؤتمر كليرمون يخطب في جموع الحاضرين ليحفزهم على حمل السيف إلى جنب الصليب والسير وراء دعوته، لم يكن هناك سوى شعار "انقذوا قبر المسيح" ليوظفه في تهييج النفوس وتعبئتها.. كل هذه الظروف والملابسات أعطت إيحاء مخادعا لكثيرين بأن الدافع الحقيقي للحركة الصليبية يستند إلى "صراع ديني" لا غير.
ثالثا: والأهم، اعترف الكثير من المؤرخين الغربيين بأن مسيحيي العصور الوسطى الذين أقاموا في ديار المسلمين قد نعموا بالأمن والرعاية، ولم تنتهك حقوقهم الدينية، ويدللون على صحة هذه الحقيقة برسالة بعث بها ثيودسيوس بطرياك بيت المقدس عام 869 م إلى زميله إجناتيوس بطرياك القسطنطينية يثني فيها على المعاملة الكريمة التي يلقاها من المسلمين، وقال كما جاء في متن الرسالة: "إن المسلمين قوم عادلون، ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت".
واعترافا على اعتراف، يقول بعض المؤرخين الأوربيون ان "غالبية الصليبيين الغربيين الذين أسهموا في الحركة الصليبية تركوا بلادهم إما بدافع الفضول أو لتحقيق أطماع سياسية، وإما للخلاص من حياة الفقر التي كانوا يحيونها في بلادهم في ظل النظام الإقطاعي، وإما للتهرب من ديونهم الثقيلة، أو محاولة تأجيل سدادها، وإما فرارا من العقوبات المفروضة على المذنبين منهم، وإما لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية في بلاد الشرق".
والحق أنه من الصعب للغاية نفي دور الدين وانعكاساته من معادلة الصراع بين الشرق والغرب، وإنما هناك ما يدفعنا لأن نميل إلى الرأي القائل بأن الغرب دائما كان هو البادئ في افتعال أي صراع مع الشرق على أساس الدين، الأمر الذي لا يجد معه المسلمون سبيلا آخر سوى الدفاع عن هويتهم، أو بالأجدى عقيدتهم وإرثهم الديني، لنقل إذا أن الدين هو المتكئ الذي استندت إليه أوربا العصور الوسطى في صدامها الدموي مع المشرق الإسلامي.. ولكن كان هناك متكئ آخر أكثر أهمية وخطورة.. على الأقل بالنسبة للأوربيين.
فعلى الرغم من كل هذه الرموز والإحالات الدينية التي امتلأت بها سجلات الحروب الصليبة، تؤكد طائفة عريضة من الباحثين في العصور الحديثة تناولت تلك الحقبة بموضوعية وشفافية أن تدني الظروف الاقتصادية في الغرب الاوربي، وعلى الأخص في فرنسا، كان الدافع الحقيقي وراء تدوير السيوف الغربية في رقاب المسلمين.
فالمؤرخ المعاصر جيوبرت نوجنت، على سبيل المثال، يلفت الانتباه إلى أن فرنسا كانت تتضور جوعا واعترتها مجاعة كاسحة كادت تقضي على كل روح نابضة فيها وذلك قبيل انطلاق صيحة الحملة الصليبية الأولى، فالغلال شحت، وأسعارها فاقت حدود المستطاع، ووقعت أزمة حادة في الخبز، وفي ظل هذه الأوضاع الطاحنة، كان من الطبيعي أن يسيل لعاب الجائعين على ثروات الشرق التي ذاع صيتها وطبقت شهرتها الآفاق بفضل التجار.
ويقول د. سعيد عبد الفتاح في كتابه "الحركة الصليبية" "الجزء الأول" ان هذه الأوضاع تفسر لنا ظاهرة ارتفاع عدد الجنود الفرنسيين المشاركين في الحملة الصليبية الأولى دونا عن أي أقطار أوربية أخرى.
وأبدا لم تكن أوربا وقتئذ بقادرة على سد احتياجاتها من المؤن والقوت اليومي، هل نصدق المؤرخين الغربيين حين يقولون، مثلا، ان الأمر وصل بأهل غرب أوربا إلى أكل الأعشاب والحشائش؟ هذا ما قالوه في مراجعهم التاريخية، وتزداد رقعة الأزمة الاقتصادية وعمقها، وتفرز في نهاية الأمر صراعات عسكرية محلية بين الأمراء الإقطاعيين، لتأتي الكنيسة وبدعوة باباتها وتنجح في فك هذا الصراع بشد الأنظار تجاه الشرق.
إن الحديث عن النوايا الحقيقية التي أوغرت صدر الغربيين ضد المسلمين عامة، والعرب خاصة، يحتمل أكثر من قول وأكثر من تأويل، وعلى حد قول د. جوزيف نسيم يوسف "في كتابه" العرب والروم واللاتين في الحرب الصليبية الأولى"، كانت الحركة الصليبية في مجملها "حركة استعمارية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، هي استعمار عسكري اتخذ من القوة المسلحة وسيلة لتحقيق أهداف العدوان، وهي استعمار سياسي يستهدف سلب البلاد حريتها وتفتيت وحدتها وإعاقة نموها، وهي استعمار استيطاني يهدف إلى الاستيلاء على الأراضي واستعباد النفس البشرية، وهي استعمار ثقافي يسعى إلى فرض الحضارة الغربية اللاتينية على العالم العربي، ثم هي استعمار ديني يتمثل في محاولات أوربا نشر الكاثوليكية في العالم العربي عن طريق الحملات الصليبية والبعثات التنصيرية.
وأخيرا هي استعمار اقتصادي استغلالي مظهره نهب ثروات البلاد والاستئثار بخيراتها من موارد وخامات أولية وفيرة".
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|