قصة قصيرة قلم جديد.. أحلام الزعيم
|
ووجه عينيه نحو جيب قميصه الذي يحوي قلماً فخماً ومذكرة صغيرة، من جانب عينه اليسرى هطلت دمعة أثقلتها حرارة منبعها، تدحرجت الكلمات على شفاهه بوهن شديد، وبدأت آثار الحقنة التي دسها الطبيب في ذراعه خلسة بالظهور فبدا أكثر استسلاما، واستمر شريط التسجيل بالدوران.
عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري اجتاحني الغضب من هرتي المدللة حيث قفزت على الطاولة المجاورة لفراشي، فأسقطت البرواز الذي يحتضن صورة أخي المتوفى في آخر توغل عسكري في مدينتنا الجائعة آنذاك، كان هذا كفيلا بأن أرفس هرتي المدللة لأول مرة خارج حجرتي، وأن أمسك قلما وورقة كما كان يفعل أخي المرحوم جلال، لم أفعل هذا قبلا، وما فعلته حينها كان لشدة افتقادي له فأنا لم أع ماذا يشكل الورق والقلم قبل هذا، كتبت على الورقة (جلال يا عزيزي، اشتقت لك، أعدك ألا تسقط صورتك مرة أخرى حتى لو قتلت تلك القطة بيدي)، وحين خرجت لملاقاة رفقتي - كالعادة - رأيت قطتي الحبيبة ملقاة في وسط الطريق ودمها يسيل من جنبيها، وآثار السيارات الوقحة لم تختبئ..
مذ ذاك، والكلمات القدرية تقترن بلعاب الحبر الذي يعبر قلمي، ذلك القلم الذي أصبح الوسيلة الوحيدة للحديث عن نفسي مع نفسي، وسيلتي التي أورثني إياها جلال بعد موته، جلال الإنسان الوحيد الذي رافقني منذ ولادتي رغم فارق ست سنين، كان جلال الصفحة التي أرسم بها أحداث يومي منذ خروجي للمدرسة وحتى نومي الباكر، لم يكن يتكلم كثيراً، فقط كان يكتب.
استمرت رفقتي لقلمي الذي بدأ ينضج شيئاً فشيئاً، بين الحين والحين أجد ما أكتبه صورة مجسدة أمامي بأي صورة أتت، قصتي التي كتبتها عن زواج فاشل انتهى بالطلاق تبعها بأسبوع خبر طلاق جارتنا التي لم تشتك يوما من زوجها!! امتحان الكيمياء الذي كتبت عنه بمذكرتي متوقعا أن يكون صعبا حد الرسوب فتجاوزني الرسوب لزميلي في المقعد المجاور، خواطري التي كتبتها عن اليتم الذي أعيشه بعد جلال وقع عليها القدر بوفاة أمي!!
يا الله ماتت أمي..
في الليلة الثانية من العزاء شكوت لأوراقي حالة سميرة أختي الكبرى وجليسة أمي الدائمة، شكوت حزنها الكسير، وقلة دمعها فكان علي أن أحملها للمستشفى صبيحة اليوم الثالث من العزاء إثر صدمة عصبية!!
بت أخشى أن أخبر أحدا عما يخطه قلمي، كل ما يتحقق أمامي، كنت أنهج منهج إخفاء الذهول حياله حتىلا يشعر بي الآخرون، للحظات كنت اشعر أن قلمي معجزة سماوية جديدة، أو أن نوعا من الجن يسكنه!! قلمي الذي ينبض وينضج أكثر كل يوم برع في كل شتى أمور الكتابة حتى تحليلاتي السياسية التي كنت أكبتها بعمودي الخاص بجريدة (الحدث) كانت تحدث بتفاصيلها الدقيقة، كل ما يكتب يتحقق، رغباتي المكبوتة التي أبثها سرا لأوراق النشوة كنت أراها حلما ليليا يرهق فراشي، ذاكرتي المليئة بالحزن تأبى أن تكتب فرحا يتحقق!!
توقف شريط التسجيل معلنا انتهاء ساعتين من الكلام المتقطع، كانت تلك الإشارة كافية أن تخلق ردة فعل عنيفة تجعله ينهض من مقعده واثبا مدركا فداحة الوقوع بالإفصاح، بصمت كئيب توارى الطبيب خلف مكتبه، وبدأ يكتب وصفته العلاجية، ناوله الورقة بجفاء من لا يكترث بكل ما قيل.
ما رأيك أن تغير قلمك؟ أنت تحتفظ بهذا القلم منذ سنوات، وحان وقت تغيره، اشتر قلما جديداً!!
تناول الوصفة التي حوت بعض المهدئات وأنواعا أخرى عديدة من الحبوب. خرج وهو يردد بسخرية (اشتر قلما جديدا)، مر على الصيدلية ثم على المكتبة، ابتاع أوراقا واأقلاما جديدة منوعة واتجه لمنزله، حاول أن يتجنب الكتابة، أن يبتعد عنها، أورثه التفكير تعبا وقلقا إضافيين، بدأ يدخن سجائره بارتباك وشراهة لم يعتدهما، يبتعد عن الكتابة!! أمر لا يستطيعه، قلمه اعتاد أن ينكح الأوراق، كيفما كانت مسطرة مزخرفة، أو عذراء، قلم جلال يقطن في جيبه منذ أمد طويل، شعر أن جلال يكلمه، يعاتبه، (هل استغنيت عني بقلم جديد)؟! تذكر تنبؤات قلم جلال السيئة، طلاق الجارة وامتحان الكيمياء ووفاة أمه والاحداث التي بقيت سرا لا يطلع عليها أحد.
أصابعه تناديه أن يراقص القلم، بارتباك أمسك بقلمه الجديد، وتناول ورقة بيضاء، وبدأ (عاصفة تجتاح سماء مدينة الأموات، فتلون كبدها بلون رمادي حزين..) صوت طفل يتسلل من فتحة النافذة (مطر.. مطر..!!)
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|