مساقات شِعْرِيَّةُ القِيَم (قراءة في خطاب حمزة شحاتة نموذجًا)«6» د. عبد الله الفَيْفي
|
جاء في المساق الماضي أنه ما دَفَع (حمزة شحاتة) في محاضرته (الرجولة عماد الخُلُق الفاضل) إلى التفريق بين (المحاسن) والفضائل) إلا التحرّج ممّا كان قد قرّره عن القِيَم الاجتماعية أن يقول ما قاله فيها - من أنها ليست مُثُلاً عُليا، لكنها مقدّمات لنتائج، وعُملات اجتماعية تُشترَى بها المصالح والمكاسب - عن القِيَم الدينية.
ولكن ألم ترتبط القِيَم في المجتمعات البشريّة بعقائد لا تقلّ قوّةً عن العقائد الدينيّة، إن لم تكن بالفعل عقائد دينيّة، إنْ صحيحة أو باطلة؟! إن قيمة الشجاعة والبطولة، لدى اليونان والرومان مثلاً، كانت لها ارتباطاتها بعقائد القوم وآلهتهم، بل لقد أدى هذا الاعتقاد في البطولة في بعض أطوار الوثنية إلى عبادة السَّلَف من الأبطال (Ancestor-worship) (1).
كما جُعلت لقيمة (الوفاء) بالعهود والمواثيق والأحلاف لدى عرب الجاهلية طقوس مرعيّة - خلّدتها اللغة - تُعقد بإشراف الكُهان لدى الأصنام، مصحوبةً بإراقة الدماء وإشعال النيران، وقَسْم الذبائح - وجاءت من هذا في اللغة العربية: مفردة (قَسَم) - وتَصَافُح المتحالفَين باليمين وجاءت منه: (اليمين) وغَمْس أقدامهما في الدم - وجاءت منه: صفة (غموس) لليمين - وحزّ على أذرع المتشارطين بالمشارط، لتُسمّى من ذلك (الشروط) بهذا الاسم (2).
كما أن قيمة الكَرَم لم تكن بعيدة عن عقائد العرب الجاهلية.
ولو أُخِذ المَيْسِر نموذجًا، لتبيّن أنه كان ممارسة للكرم، ذات وظيفة جليلة معظمة لديهم، اقتصاديًّا، واجتماعيًّا ودينيًّا (3).
بل لقد كانت للأُمم القديمة آلهة ترمز إلى تلك القِيَم، كآلهة للشرّ، وآلهة للخير، وآلهة للحب، أو الخصب، أو الغرائز، وهلمّ جرّا.
ممّا يدلّ على أن القِيَم ارتبطتْ بشكل أو بآخر بضروب التديّن.
هذا إضافة إلى أن المؤسسة الاجتماعية، في حدّ ذاتها، بسُلطة أعرافها من العادات والتقاليد، تَكتسب قداستها في تلك المجتمعات، بحيث تتحوّل إلى ما يُشبه الوازعات الدينيّة.
بل إن القِيَم حتى في تلك المجتمعات التي توصف ب(اللادينيّة) ما تلبث أن تغدو عقائد؛ إذ ليس الإيمان محصورًا بالإيمان برسالات سماوية، لكنّ ضروبًا من الإيمان الأخرى تنشأ عنها القِيَم وتنمو.
ومن ثَمّ تحوّلت قيمتا (العمل) و(الإنتاجيّة) في المجتمع الشيوعيّ- على سبيل المثال- إلى إيمان فرديّ واجتماعي، مثلما باتت قيمة (الحريّة) في بعض المجتمعات الرأسماليّة إيمانًا أيضًا (4).
وبذا يتبدّى كيف أن شحاتة كان قد أخلّ بمقاييسه التي افترضها، منحازًا إلى عاطفته الدينية، أو خشيته، كما قال، من (أن يُؤخَذ - هذا التحليل - دليلاً على عقيدتنا في رُجحانها - أي الرذائل - على نقائضها.
وليس لنا في الحقيقة غرض من هذا التحليل والمقابلة، إلا الإشارة إلى أن هذه الرذائل أو بعضها من سنن العقل والطبائع أو من فرائضها) (5) ولو استقام بالمؤلِّف المعيار لدلّه على النسبيّة في النظر إلى القِيَم الإنسانيّة، بما يجرّدها عن مثاليتها المطلقة، ويرتفع بها عن مصلحيّتها الماديّة المسرفة. ومن منظورٍ يبدو رافضًا لقِيَم المجتمع الحديث، مع تصوّرٍ تعميميّ وغير دقيق - يخلط شحاتة بين نوعين من القِيَم، نوع يمثّل خصالاً فطرية، كالجُبن، والشجاعة، ونوع آخر هو سلوكٌ أخلاقيّ اجتماعيّ، كالصدق، والكذب، والعِفّة، ونحوها.
إذ يرى أن البلاد التي تتّسع فيها أسباب الكسب، وتتنوع وسائله، ويتكاثف فيه الاجتماع، (متى تكفّلت الأنظمة بحماية الحُرمات الفرديّة، وبحماية الحُرّيّات والحقوق، وقام الفرد بواجبه القانوني في صِلاته المعيّنة الحدود بالناس، استوى في القِمّة الحليم والأحمق، والعفيف، والمستهتر، والكاذب والصادق، والشجاع والجبان، والأناني والإيثاريّ.
ما دامت رذائل إنسان لا تتناول غيره بالأذى والإساءة) فهل صحيح أن من يتّصفون بهذا الخليط من القِيَم الأخلاقيّة والخِصال الذاتيّة يستوون في القِمّة؟! وهل يمكن أن لا تتناول رذيلة الاستهتار أو الكذب لدى الإنسان في تلك المجتمعات غيره بالأذى والإساءة؟! إنها مصادرات تصل به إلى القول: (إن النظرة العامّة إلى الفضائل أصبحتْ نظرة خياليّة، لا نظرة إيمان وتحتيم. وأنها لم تعد سلاحًا يضمن الحماية لمتقلّده.) وهو تَصَوُّر نحا الكاتب إلى إسقاطه على المجتمع البشريّ كافّة.
ولذلك يكاد القارئ يرى في محاضرة شحاتة محض قصيدة منثورة، لشاعر بَرِمٍ بمجتمعه وعصره، لا يؤمن بنسبية الأشياء، ولا ينظر إلى المجتمع بعين الفاحص المقارن، ولكن بروح الانفعال الشِّعْريّ والموقف النفسي، فيقول في محاضرةٍ ما يقوله في تأمّلاتٍ شعريّة، يرد فيها:
أرانا عَبَدْنَا المالَ، والجاهَ، واللُّهَى
فماتتْ دَواعي الكِبْرِ فينا. فما نحنُ؟! (6)
يؤكّد هذا أنه - على الرغم من تقريره السابق حول الفضائل، وأن طبيعة النفس البشرية ألصق بالرذائل لولا المصالح والقوانين- يقف متساءلاً: (أرأيتم كيف يتقلّص نفوذ الفضائل في هذا الزمن العجيب الذي اتّضحت فيه سُبُل الحياة وحقائقها، وقلّت مساتير النفس وانكشفت مكنوناتها؟ أرأيتم كيف تقلّص في عصور عجيبة قبله، امتطت فيها الرذائل غوارب الفضائل تقودها، وتُتخذ منها جُنّة تُتّقى بها المخاطر، وتُدفع قالة السوء، وتسخّر الجموع وتُخمد الفورات؟) فالباعثُ إذن وراء حِراك القِيَم هو- في رأيه- (الزمن العجيب)، ماضيًا وحاضرًا، وليس أن طبيعة الإنسان متقلّبة، ووظيفة القِيَم نسبيّة. ومن هنا يظهر أننا إزاء خطاب شاعرٍ، لا باحث اجتماعيّ.
وكما كان ينازع المؤلف حنينُه إلى الماضي، يُلمح حنينُه إلى القرية، أو جفوله من المدينة، وهنا ستقع رؤاه في شَرَك التناقض.
لا أدلّ على هذا من ربطه الفضائل بالقرية، والرذائل بالمدينة، حيث يشير إلى أن (الكذب يقلّ حيث يقلّ التزاحم على أسباب العيش، فهو في القرية أقلّ منه في المدينة) (7) وهو استنتاج مغالط؛ لأن التفاضل بين القرية والمدينة ليس في النوع ولكن في النسبة، والأمر بدهيٌّ إنْ في قيمة الكذب أو سواها؛ من حيث إنّ القِيَم تختلف باختلاف حجم المجتمع، وطبيعة العلاقات القائمة بين أفراده؛ نظرًا إلى أن القِيَم هي نتاج اجتماعي في الأساس.
ولئن كانت للمدينة قِيَمها السلبية، فإنَّ لها قِيَمها الإيجابية، قياسًا إلى القرية. وللتفصيل في هذا مساقنا الآتي، إن شاء الله.
aalfaify@hotmail.com
****
إحالات
(1) يُنظر: محيي الدين، علي الدين، (1984)، (عبادة الأرواح (القوى الخفية) في المجتمع العربي الجاهلي)، (بحث ضمن: الندوة العالمية الثانية لدراسات تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الثاني- الجزيرة العربية قبل الإسلام: ص ص 153- 164)، (الرياض: جامعة الملك سعود)، 155. مشيرًا إلى أن عبادة السَّلَف قد استمرتْ لدى كثير من الأمم الوثنية حتى أيامنا هذه، كما في الصين واليابان.
(2) يُنظر: ظاظا، حسن، (المجتمع العربي القديم من خلال اللغة، (بحث ضمن: الندوة العالمية الثانية لدراسات تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الثاني- الجزيرة العربية قبل الإسلام: ص ص 177- 186)، 180.
(3) يُنظر في هذا كتاب: ابن قتيبة، (1342هـ)، المَيْسِر والقداح، عناية: محب الدين الخطيب (القاهرة: المطبعة السلفية).
(4) علاوة على أن قيمة (الحريّة) هي في الأساس مَثَلٌ أعلى وإيمان إنسانيٌّ عامٌّ، وإن لم ترتبط بدِين.
(5) شحاتة، حمزة، (1981)، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، (جدة: تهامة)، 78.
(6) (1988)، ديوان حمزة شحاتة، (الطبعة الأولى: ؟)، 173.
(7) شحاتة، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، 75.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|