الشعر فوق التاريخ د. صالح زيَّاد
|
حين يرتبط الشعر بأحداث ووقائع وأماكن وأشخاص، مما يمثل تعلقاً مباشراً لضمير الشاعر بالواقع المعاش والعابر، يغدو هذا الشعر لصيقاً بالتاريخ، أي يغدو جزئياً لا كلياً، فالتاريخ - كما علمنا أرسطو - أميل إلى قول الجزئيات. والمعنى الكامن هنا أن هذا الشعر ناقص لأنه مقيد بالتبعية التي تشرطه فترتبه تالياً لمنزلة الحقيقة التاريخية أو النفعية وتوظفه لتوثيقها وأدائها.
ولهذا يشرح الناقد الفرنسي جان ماري جويو J.M.Guyau ما يريده أرسطو، قائلاً: (لئن كان العالم يكتب تاريخ الكون مفصلاً دقيقاً، فإن الشاعر يكتب أسطورة هذا العالم إن صح التعبير، والأسطورة وثيقة من وثائق التاريخ، وكثيراً ما تكون أصدق من التاريخ، أو كما يقول أرسطو أكثر فلسفية من التاريخ).
من المؤكد أن تناول الشاعر لأحداث ووقائع وعناصر تاريخية أو طبيعية لن يجمد - في أقل الأحوال - عند حد النقل التسجيلي المباشر أو المرآوي لها، إذ من الطبيعي أن يصنعها من زاوية ما، ولكن الفارق بين من تنكب من الشعراء التعيين التاريخي ذي الحدود المكانية والزمانية ومن لا يتنكب ذلك منهم، هو الفارق بين الرؤية الكلية والرؤية الجزئية، بين الجوهر والعرض، والفلسفة والتاريخ، والإطلال من عل والرؤية للشيء وأنت في قلبه.
إنه فارق الفن والفكر الذي يبدو - فيما يقول ديدرو ( Diderot ( 1713 - 1784 - وكأنه يضرب المثل كي تحاكيه الطبيعة ولا يحاكيها.
وليس الشعراء والفنانون سواء في ذلك، وليست قصائدهم ومنتجاتهم الفنية سواء في ذلك؛ لأن لمضمار الإبداع ولمسافة الرؤية الفكرية والجمالية مدى متدرجاً صعداً ابتداءً من أولى درجات الاستسلام لسلطة الواقع والتاريخ.
إن استعراضاً سريعاً لعدد من دواوين الشعر العربي الحديث، ليرينا تفاوت الحضور التاريخي فيها: أحداثاً، أشخاصاً، قضايا، أمكنة، وأزمنة... وهو حضور - إجمالاً- لا يكاد يقتصر على اتجاه دون آخر، ولا مدرسة دون أخرى؛ فهو في الشعر التقليدي، وفي الشعر الرومانسي والوجداني، وفي الشعر الحر.
وإن كانت المقارنة بين هذه الاتجاهات الشعرية ترينا أن الوجهة الإبداعية والواقعية - للمفارقة - أكثر تخطياً للعابر والمؤقَّت باتجاه العمومي، ومن ثم أكثر حفولاً بالمثالية، وكأننا بإزاء قاعدة منتظمة: أن الواقعية والتجديد الإبداعي لا يتولَّدان إلا عن امتلاء بالمثالية.
ولن تختلف - في هذا الصدد - مثلاً: قصيدة (الكوليرا) لنازك الملائكة، أو (شنق زهران) لصلاح عبد الصبور، عن (نكبة دمشق) لأحمد شوقي، أو (حادثة دنشواي) لحافظ إبراهيم.
ولن تختلف قصيدة (يوم الميعاد) للعقاد في عودة سعد زغلول من المنفى، وقصيدة (في صفوف المجاهدين) لعلي محمود طه في المناسبة نفسها، عن قصيدة (استقلال لبنان) لخليل مطران.
وهو المسار ذاته الذي شارك فيه الشعراء السعوديون؛ إذ تأخذ - مثلاً - قصائد: (استقلال سوريا)، و(استقلال السودان)، و(استقلال المغرب العربي)، و(الجزائر المنتصرة)، و(العدوان الثلاثي على مصر) لمحمد حسن عواد - منزعاً تاريخياً وإعلامياً مطابقاً لقصيدتي (الجامعة العربية) لطاهر زمخشري وأحمد قنديل، أو قصيدة (قناة السويس) لحسين عرب عن العدوان الثلاثي على مصر، والتسجيل لموقف الأسى والحزن على نتيجة حرب 1967م في قصيدة (أثر النكسة) لإبراهيم فلالي، أو الانتصار الوطني في قصيدة (غضبة الحق للبريمي) لفؤاد شاكر... وعشرات القصائد الأخرى في الأحداث والحروب والهزائم والانتصارات، فضلاً عن مئات التهاني والمراثي والمدائح التي تأخذ طابع مناسبات ذات تعين تاريخي فردي.
وهذا لا يعني - بالمناسبة - أن ليس لهؤلاء الشعراء شعر وراء المعيِّن التاريخي الكامن في أمثال هذه القصائد، أو أن هذه القصائد نفسها ليس فيها شعر وراء تاريخيتها.
كما لا يعني أن ليس في الشعر العربي شعراء يجانب منتوجهم الشعري، بشكل كامل أو يكاد، المعيِّنات التاريخية، متخطياً - دوماً - إلى الكل، ومحتفظاً بمسافة ما عن الواقع العياني المباشر، لتتسنى له رؤية هذا الواقع بصورته الكلية، وصولاً إلى تعميمات فكرية ذات مغزى إنساني.
وإنما يعني أن غياب المعينات التاريخية علامة دالة مثلما أن حضورها علامة - أيضا - دالة.
وغيابها أمام نمطية الحضور وكثافته يضاعف من امتياز دلالة غيابها ذات البعد الاختلافي.
حمزة شحاتة - مثلاً - مختلف عن هذا السياق؛ فعلى الرغم من امتداد حياته (1328هـ -1910م -1390هـ -1970م) في حقبة حافلة بالأحداث والقضايا المحلية والعربية والعالمية، ابتداء من الحرب العالمية الثانية وانتهاء بهزيمة حزيران 1967م، ومروراً بأسباب عديدة للابتهاج الشخصي والوطني والعربي والإسلامي، وبأخرى للفجيعة.
وعلى الرغم من مناخ شعري وثقافي يرى في الأحداث باعثاً على القريض، ومناسبة للتدليل على الحضور الواقعي والجماهيري، وفعل التوجيه والقيادة للجماعة.
خصوصاً والحزبية ومفاهيم (الالتزام) الاجتماعي والوجودي والديني والقومي، تشكل طوق القيمة وشارة الجدارة. على الرغم من ذلك - فإن شعر حمزة شحاتة يُغَيِّب التاريخ، صانعاً بذلك، عن وعي أو لا وعي، دلالة مختلفة على شعره وفكره ونموذجيته الإنسانية التي يكمن فيها زهد المتصوِّف، ومثالية الفيلسوف، ورمزية الفنان.
ويبدو هذا الاختلاف متصلاً بعمق غائر منح حمزة شحاتة حواس من طبيعة غير نفعية أو آنية، وجعله يبدو، لدى أصدقائه ومعارفه، مختلفاً عن مألوف الناس ومعتادهم؛ ليقول مثل صديقه عبد الحميد مشخص عنه، إنه: (عزف عن الأشياء، وظل يطل على الحياة من على ضفاف غير تلك التي يعيش فوقها البشر).
وهذا الوصف، إن نحن اصطحبنا دلالته على شعر حمزة شحاتة وفكره، يحمل التأشير على غياب التاريخ؛ لأن (العزوف عن الأشياء) مدلول الارتقاء إلى المعنى والمثال، وقرينة التحرر من القيد المادي والزمني. مثلما أن الإطلال على الحياة (من على ضفاف غير تلك التي يعيش فوقها البشر) علامة تضاعف معنى الاستقلال والميل إلى كلية وعموم، عن طريق الرؤية من مسافة لا يعوق الاتصال اللصيق بالواقع مداها الرحب.
وإذا كان عبد الحميد مشخص يأخذ منحى حمزة شحاتة الشعري والفكري بما يكشف عن كلية الرؤية، والتأشير بها، من ثم، على الامتياز - فإن صديق حمزة الآخر، إبراهيم هاشم فلالي، يكشف عن تلك الكلية من زاوية نقدية، في اتجاه الإنكار والعتب، الذي يأخذ نبرة متحسرة على ما يرى إنه فقدان لدور الشاعر الكبير تجاه واقعه المحلي، حين يقول: ومثل حمزة في شعره ونثره مفخرة لنا لولا سمة من سماته التي لا نحمدها له، وإن كان هو يحمدها لنفسه.
هذه السمة هي (اللاأبالية) التي تتركه ينطوي على نفسه، ولا يبعث بإشعاعه القوي الباهر إلى موطنه ومواطنيه، وإن ميداناً لا يبرز فيه حمزة نحس بفراغ مكانه فيه، فإلى الميدان يا أستاذ! إن عتادك موفور فلا تشح على الأدب بمجهودك فيه.
الفعل الأدبي والفكري، لدى الفلالي، هو الاكتراث بالواقع، وعلامته المشاركة في أحداثه وقضاياه وهمومه: أي حضور معينات تاريخه في الشعر.
استعلاء حمزة شحاتة على الآنية، لئلا يُمحى الجوهر، أو يتلاشى الكل أمام ضغط اللحظة الراهنة، يحيل سمة حمزة شحاتة عند الفلالي إلى (اللا أباليه) و(الانطواء على النفس) وهي السمة التي أدرك عبد الحميد مشخص أنها ناتج الاتساع في الرؤية.
ولقد كان حمزة شحاتة، نفسه، واعياً بوجهته تلك، خصوصاً حين نجد مثل قوله: (إن الحياة بالمعنى الشامل هي الإنسان، وعلاقاته، وصيرورته... والأدب والفنون في الحياة ومنها... ولا يمكن أن تكون شيئاً منفصلاً عن الإنسان).
أو قوله: (إن بواعث الشعر- فكرية كانت أو نفسية - هي ذات بواعث الحياة وانفعالاتها.. ومعانيه، وخيالاته، وصوره هي التي تجول في كل نفس، وفكر... غامضة مكبوحة، أو واضحة طليقة.. وباهتة أو لامعة).
فهناك معنى شامل للحياة، وتلك هي الخطوة الأولى التي ترشح إدراك الأجزاء وفهمها بوصفها تالية للكل لا سابقة، وهو ما يرهن قيمة الأجزاء ومدلولها للكل، الذي علمتنا الجشطلت Gestaltism إن معرفتنا به وبقوانينه غير تابعة لمعرفتنا بالأجزاء المنفصلة التي نجدها فيه، وأن له، من حيث هو كذلك، خصائص لا يمكن استنتاجها من مجموع خصائص الأجزاء.
والمهم، هنا، أن نظرة حمزة شحاتة للأدب، لا تختلف عن نظرته للحياة، وهذه وتلك لا تختلفان عن نظرته للإنسان، إذ تأخذ منحى المعنى الشامل الذي نتماهى - جميعاً - فيه بقدر ما تتواصل.
Zayyad62@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|