الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 29th May,2006 العدد : 155

الأثنين 2 ,جمادى الاولى 1427

التقويض الفرويدي (1)
سعد البازعي

(المقالات المنشورة هنا مسلسلة في الأسابيع القادمة نسخة معدلة من الفصل الخاص بفرويد من كتاب سيصدر قريباً إن شاء الله بعنوان - المكون اليهودي في الحضارة الغربية)
لست متأكداً من صحة نظرتك إلى التحليل النفسي بوصفه نتاجاً مباشراً للعقل اليهودي، ولكن إن كان كذلك فلن أشعر بالخجل.
فعلى الرغم من أنني اغتربت عن دين أسلافي لزمن طويل، فإنني لم أفقد تضامني مع شعبي...
(اعتقد رانك Rank أن اليهود وحدهم قادرون على إيجاد (حل جذري) للاضطراب العصبي. وشعر فتلز Wittles أن اليهود، (بالعاطفة السامية التي يحملونها بوصفهم مضطهدين)، ينبغي أن يقودوا الطريق إلى تحقيق العدالة للبشرية كلها...)
(من مقولات فرويد)
ليس من المبالغة أن نقول إن لسيغموند فرويد اليوم حضوراً في الثقافة الإنسانية كلها يكاد يوازي حضوره المركزي في الثقافة الغربية التي كان وما يزال من أبرز أعلامها.
فمن الثقافة الغربية جاءت التطورات الحديثة في علم النفس الذي يعد فرويد أشهر ومن أهم ممارسيه والمنظرين له. فمن الغرب، وإلى حد كبير من جهود فرويد نفسه، اتخد ذلك الحقل البحثي والمعرفي شكله المعاصر ليحقق قدراً من العلمية لم يحققه من قبل. ففي نهاية القرن التاسع عشر كان علم النفس يتطور باتجاه المزيد من الانضباط المنهجي والتوسع البحثي. وقد جاءت إسهامات فرويد ضمن إسهامات عدد من الباحثين في أوروبا وأمريكا، منهم الأمريكي وليم جيمس والألماني فلهلم ماكس فوندت، لتقترب بعلم النفس إلى ما هو عليه الآن من حيث هو حقل معرفي وعلمي رئيس.
غير أن حضور فرويد في الثقافة بشكل عام ليس محصوراً في إسهاماته النفسانية. فهو أيضاً من أبرز نقاد الثقافة ومحلليها في عصره، وآراؤه في دراسة المجتمعات البدائية وعلاقتها بالحضارة المعاصرة، كما في كتابه الطوطم والتابو وقلق في الحضارة، تركت أثراً واسعاً في عدد من الميادين منها الأنثروبولوجيا والتأريخ والدراسات الأدبية. يضاف إلى ذلك أن هناك الآن من يعده من أبرز كتاب عصره على المستوى الأدبي لا سيما في مجال المقالة حيث قدم العديد من الأعمال المميزة. هذا كله على الرغم من النقد الواسع الذي جوبهت به إسهاماته وما تزال تجابه، والذي يشير إلى تضاؤل تأثيره في العقدين الأخيرين، كما تشير إلى ذلك دراسات كثيرة منها كتاب بعنوان (فرويد ومنتقدوه) لبول روبنسن.
لكن تضاؤل التأثير لا يكاد يلمس الحقيقة الماثلة في أن كثيراً من التصورات والمفاهيم النفسية الشائعة، حتى لدى من لا يعرفونه أو يعرفون عن علم النفس شيئاً، تعود إلى كتابات فرويد وما شحنته بها من دلالات: فمن الذي لا يستخدم الآن مفاهيم مثل: الأنا والآخر واللاوعي بالدلالات الفرويدية التي عمقتها المناهج التربوية وما يتعلمه التلاميذ منها؟
تمثل الإسهام الرئيس لفرويد في ميدان الدراسات النفسية من خلال دعوته لفهم أدق للأحلام ولطبيعة الاضطراب النفسي المعروف بالعصاب (نيوروسس)، بالإضافة إلى دعوته المشهورة إلى فهم جديد وثوري لدور الغريزة الجنسية في توجيه السلوك البشري. غير أن شهرة فرويد، لاسيما في الثقافة الغربية، جاءت إلى حد كبير من تأسيسه منهجاً جديداً في دراسة النفس ضم تحت لوائه معظم الإسهامات التي قدمها ذلك العالم النمساوي اليهودي لعلم النفس: إنه منهج (التحليل النفسي) (سايكو أناليسيس (psychoanalysis)، المنهج الذي ظل وما يزال يثير الكثير من الجدل ليس بين المختصين في علم النفس فحسب، وإنما لدى عامة المثقفين ومؤرخي الثقافة الغربية عموماً.
هذه الجوانب من أعمال فرويد وشخصيته هي ما سنأتي عليه بشيء من التفصيل في المقالات التالية، لكن قبل ذلك ينبغي التعرف على فرويد شخصياً.
خلفية تاريخية:
ولد فرويد عام 1856 لعائلة يهودية هاجرت لأسباب اقتصادية من مورافيا الواقعة في تشيكيا، شرق أوروبا الآن، بعد ثلاث سنوات من مولده وأقامت لسنة واحدة في مدينة لايبزغ الألمانية لتهاجر بعد ذلك إلى فيينا، عاصمة النمسا، حيث أقامت وحيث أمضى فرويد معظم سني حياته الثلاث والثمانين. فربط فرويد بالنمسا يأتي بسبب هذه الإقامة الطويلة التي لم تنته إلا مع تولي النازيين السلطة في ألمانيا وبدئهم عملية التخلص من الجماعات اليهودية في أوروبا، العملية التي هددت فرويد ضمن من هددت من بقية اليهود المقيمين في النمسا، فيينا خاصة، واضطرت الكثيرين للهجرة إلى بريطانيا وأمريكا، ضمن أماكن أخرى.
لكن قبل المضي في استعراض المحطات الرئيسة في تكوين فرويد التربوي والعلمي ينبغي الإشارة إلى دور أمه التي يرى بعض دارسيه أنها لعبت دوراً أساسياً في تغذية انتمائه اليهودي. فقد كانت الأم (أماليا فرويد) شديدة الارتباط بلغتها اليدية (لغة اليديش أو اللغة التي انتشرت بين يهود وسط أوروبا والتي مزجت العبرية بعناصر من اللغات الأوروبية) وبموروثها الاجتماعي والمعتقدي الذي جاءت به من موطنها غاليسيا شرق أوروبا والتي كانت مركز العائلة. وكان سيغموند لصيقاً بها حين انتقلت العائلة عام 1859 من بلدة بريبور في مورافيا. وليس مستبعداً أن يكون الابن قد تلقى من والدته اعتزازها بثقافتها وانتمائها العرقي والثقافي، إن لم يكن الديني بالضرورة (كما يشير إلى ذلك موشي غريسر في كتاب بعنوان (الانتماء المزدوج: فرويد بوصفه يهودياً حديثاً)، 1994).
درس فرويد الطب في النمسا وفرنسا وكان اهتمامه البحثي منصباً على علم أمراض الأعصاب (neuropathology) الذي درسه وقام بأبحاثه فيه تحت إشراف طبيب فرنسي مشهور آنداك هو شاركو. وقد أشار فرويد إلى تأثير شاركو عليه في كتابه تاريخ حركة التحليل النفسي حين ذكر شاركو ضمن ثلاثة أشخاص تعلم منهم وجود علاقة بين العصاب أو الاضطراب العصبي (نيوروسيس (neorosis) والجنس. وكانت الأشهر الخمسة التي قضاها فرويد في باريس بمثابة تحولٍ خطيرٍ في حياته حيث إن بعض المرضى الذين تعامل معهم كانوا من المصنفين بالهستيريين، فقد بدا لفرويد أن سبب إصابة أولئك بالهستيريا يعود إلى مرض في العقل بدلاً من المخ، أي أن أصل المرض ليس جسدياً بيولوجياً بقدرما هو نفسي. بدأ فرويد بعد ذلك تعاوناً بالغ الأهمية بالنسبة لتطوره العلمي والطبي مع الطبيب الألماني فلهلم فلايس Fliess الذي كان، كما قال فرويد نفسه فيما بعد، شريكه في تأسيس التحليل النفسي، ويقول البعض إنه، أي فلايس، كان صاحب الفكرة التأسيسية وأن فرويد هو الذي طورها. أما المؤكد فهو أن الاثنين عملا معاً على مدى خمسة عشر عاماً لم تنته إلا باتخاذ فلايس موقفاً انتقادياً تجاه بعض أطروحات فرويد مما دعاه للتوقف عن التعاون معه وترك فرويد يعمل وحده أو مع شركاء آخرين كانوا أيضاً على قدر كبير من الأهمية في تطوير التحليل النفسي ومفاهيمه الأساسية. كان من أولئك طبيب اسمه جوزيف بروير استطاع أن يطور طريقة في العلاج النفسي تعتمد على نوع من الخدر الذاتي الذي يتحدث أثناءه المريض على نحو يسمح للشحنة العاطفية الحبيسة بالخروج فيرتاح المريض.
ويتبين من هذا أن بروير كان أحد السباقين إلى تطوير التحليل النفسي، ليتلوه فيما بعد علماء نفس أكثر شهرة عملوا مع فرويد منهم: يونغ وأدلر.
ما يلفت النظر في هذه الشراكات العلمية هو أنها لا تلبث طويلاً قبل أن تنحل، غالباً بسبب الخلاف الناشئ عن أطروحات فرويد التفسيرية في قراءته للأمراض النفسية ومنشئها. أما الذين عملوا مع فرويد أو استمروا في العمل معه فكانوا بطبيعة الحال الذين قبلوا بأطروحاته التفسيرية تلك، وما يثير الاهتمام بشأن أولئك هو أنهم في الغالب من اليهود، على عكس الغالبية ممن تخلوا عنه. هذا الجانب البالغ الأهمية لما نحن بصدد الحديث عنه ستتضح أبعاده أكثر في ما سيأتي، علماً بأن أحداث حياة فرويد تحمل الكثير مما يضيء هذا الجانب الفئوي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved