إعداد - محمد المنيف:
مهما غزت الفنون الحديثة (غير المتحفية) المعتمدة على الفكرة العابرة والمتكئ على رصدها بالصورة الفوتوغرافية الثابتة أو المتحركة عبر الفيديو، أن تمحو أو تلغي أو تهمش ما سبقها من أساليب فنون لا زالت تحمل عبق الماضي بكل تفاصيله البيئية والاجتماعية التي وثقها الفنانون التشكيليون الرواد في مراحل تشكل الحركات التشكيلية في العالم العربي، ولا أن تنافسها في مستوى الفكرة والتنفيذ، مع أن كثير منها كان أكثر تطورا وحداثة وبقاء للتاريخ من نتاج الحراك الحديث الذي تعيشه الفنون البصرية في بعض وليس كل الفعاليات.
ومن المؤسف أن الحالة التي تعيشها فنوننا المحلية بالركض خلف وهم حداثة لا تدوم في محاولات من منتهجيها لإعادتها بعد فشل حضورها في الستينيات الميلادية، محاولات تصدم بما أبقاه أجيال الفن التشكيلي العالمي عامة والعربي من الأسماء الرائدة.
رد الشرق، استعراض
لإبداع لايموت
قدر لي أن أحظى بمشاهدة معرض يحمل عبق أجمل مراحل الفن التشكيلي العربي ضم نخبة من الفنانين التشكيليين العرب، أعادتني كل لوحة لمرحلة من تاريخ نشأة الفن التشكيلي الأصيل، فكرا وتنفيذا، أسماء ومواضيع، حياة اجتماعية لم يعد لها وجود وبيئة فطرية تعج بالجمال اكتسحتها مطامع الحضارة العمرانية. كانت زيارة المعرض ضمن برنامج الزيارات التي أعدها بينالي الشارقة للإعلاميين ومن بينها منطقة القصية التي تحتضن “مؤسسة بارجيل للفنون” المنظمة للمعرض والذي يأتي بالرقم السادس في سلسلة معارضها ويحمل عنوان “ردُّ الشرق” يجمع إبداع ثلاثة عقود كاشفا الكثير من التحولات السياسية والثقافية في المنطقة العربية، حيث يجتمع في المعرض إبداعات تعيدنا إلى النتاج الفني من خمسينيَّات إلى سبعينيَّات القرن العشرين، حيث يشتمل المعرض على أعمال مختارة من مقتنيات سلطان سعود القاسمي، مُؤسِّس “مؤسسة بارجيل للفنون”.
وتبرز أهمية المعرض فيما رصدته من أغوار فترة هامة في مرحلة تأسيس وانطلاقة الفن التشكيلي في المنطقة العربية، بما يظهر به من تنوع في الأعمال والأسماء المنتقاة من مختلف الدول العربية شكلت في مجملها حوارا مفتوحا ينطلق من قواسم مشتركة بين بيئات الفنانين وهمومهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. تعود إلى أصالة مشتركة يجمعها التاريخ والتراث والثقافة عادات وتقاليد وقيم تشكل جذورا ثابتة، مع ما كشفه المعرض من مراحل التحرك الأول من هذه النخبة من الفنانين بمختلف المدارس الفنية في فترة قل من يعي أو يقدر مثل هذا الجهد..
ويتضمَّن المعرض أعمال عدد من روَّاد الفن الحديث في المنطقة من العربية منذ خمسينيات القرن العشرين. من الكويت عبد الله القصار ،ومن السعودية عبد الحليم رضوي ومن لبنان شفيق عبو، بول قورقسيان، ومن المغرب أحمد الشرقاوي ومن الجزائر، محمد خدا، عبد القادر قرماز، ومن سوريا وليد الشامي، لؤي كيالي، نشأت الزعيبي. فاتح المدرس، نصير شورى، نعيم إسماعيل، ومن مصر راغب عياد، جاذبية سري، سيف وانلي، ادم حنين، احمد مصطفى، سمير رافي، ومن العراق حافظ الدروبي، إسماعيل فتاح، كاظم حيدر، سعد الكعبي، إسماعيل الخياط، نوري الراوي، عصام السعيد، شاكر آل سعيد، ضياء العزاوي.
جولة على المعرض
يشتمل المعرض على أعمال 28 فنانا تتقدمهم لوحة الفنانة جاذبية سري إحدى رائدات الفن التشكيلي في مصر أخذت موقعها المناسب في مدخل المعرض عن يمين المشاهد فأصبحت عنوانا للبقية يليها لوحة (منظر) لنصير شوري لضفاف نهر يشعرك بالسكينة والهدوء، لتنتشر بقية اللوحات بكل ما فيها من قيمة ومقام إبداعي يقف له المشاهد احتراما ويتردد في أن يترك أي من تلك اللوحات قبل أن يصل إلى قناعة تامة بالانتقال إلى الأخرى.مشاعر فياضة تنتاب المشاهد فهو يستحضر كل حواسه ممزوجة بخيال يعود به إلى الماضي، طارحا الأسئلة كيف كان يعاني هؤلاء من قلة المهتمين وكيف كانوا ينتشون ويشعرون بالغبطة بإنجازاتهم في مجتمع لا زالت الأمية فيه تشكل عبئا كبير على مجتمعاتها.
للنحت حضوره
مع أن اللوحة المسندية كانت الطاغية والمحتوية للمعرض إلا أن النحت لم يكن النحت غائبا بل حاضرا بكل عنفوانه وقوته وقيمته فكرا وتنفيذا، ولو من خلال عملين للفنان ادم حنين التي أطلق عليها مريم النيل من البرونز مطموسة المعالم وكأنه يستشرف واقع مصر اليوم الذي لا زال غامضا، أما منحوتة إسماعيل فتاح فقد برز فيها حرفية النحت وحداثة التعبير وفلسفة المعنى تظهر رمزا لجسد تشكل مع الكرسي الذي يجلس عليه فلم يعد يعي المشاهد أيهما المتمسك بالآخر (الكرسي بالجسد أم الجسد بالكرسي).
المعرض في مجمله نموذجاً لمتحف اختصر المسافة بين مراحل التاريخ التشكيلي، وقرب المسافة بين أجياله وأثبت أن الإبداع الأصيل لا يتغير أو يتبدل أو يلغى من ذاكرة الإبداع الإنساني.
monif.art@msn.com