«أقصى درجات التعاسة أن تخون محبيك، تسافر وراء النزوات وتجلب الشر ويموت الآخرون، وتعيش لتذكرهم قليلاً، أو لا تذكرهم على الإطلاق».
بهذه الجملة البسيطة يلخّص بطل رواية «إيبولا 76» للروائي السوداني أمير تاج السر، عامل النسيج «لويس نوا» حياته، وهو يحمل في داخله خيبة كبيرة جدا، حين ذهب ليعزي نفسه في وفاة عشيقته في بلاد الكونغو، ويعود وهو يخبئ الموت في جوفه، وينشره في مدينته الصغيرة، التي يطلق عليها «أنزارا»؛ ليتحول هذا الموت في داخله إلى وباء يدمر كل شيء.
«إيبولا».. هي رواية الموت والدمار والخذلان، وصراع الإنسان من أجل البقاء، في مدينة لا تعترف بالإنسان، فالمرء حين يواجه الموت يغدو ضئيلا جدا، فكيف إذا واجه هذا الموت وهو ضئيل في الأساس لا يهتم به أحد ولا يلقي له بالا؟، رواية تحكي قصة انتقال مرض «إيبولا» الذي اجتاح إفريقيا في فترة من الفترات، وقضى على أعداد كبيرة من البشر، من بلاد الكونغو إلى جنوب السودان في جسد عامل في مصنع للنسيج.
إن أكثر ما يثيرك في هذا العمل أنك ستقف مدهوشاً في نهاية الرواية، وتتساءل: من كان بطل هذه الرواية فعلا؟، فأحيانا ربما تقول بأن «إيبولا» المرض هو البطل، وأحيانا تعتقد بأن المكان هو البطل الحقيقي فعلا، وربما تقول بأن «لويس نوا» عامل النسيج الذي جاء بالمرض من الكونغو إلى «أنزارا» هو البطل، وأحيانا «رياك» صاحب المصنع القاسي، وربما تعتقد بأن العازف الأعمى هو البطل، وذلك لأن الكاتب أعطى البطولة لكل هؤلاء، فأنت تغوص في كل هذه الأشياء بنفس الطريقة، لذا كانت البطولة مفتتة على الجميع، لتتأكد بأن هذه الرواية لا بطل لها، فكل ما يخطر ببالك في الأجواء العامة للعمل يحمل صفة البطولة.
من ناحية ثانية أستطيع بأن أجزم بأن «تاج السر» روائي وفنان وحكّاء بامتياز، فإذا ما أدركنا بأنه طبيب، يمارس مهنة الطب، ويتحدث في هذا العمل عن مرض يجتاح الأماكن كلها ويقتل من يصادفه في طريقه، فهو في نفس الوقت لا ينجرف وراء هذا المرض بصفته طبيبا، فأنت لن تشعر لوهلة واحدة أنك أمام طبيب يكتب، إنما ستدرك حتما أنك أمام فنان لم يتعالم على الفن كونه طبيبا بأن ينظّر تجاه هذا المرض، وينزلق في منزلق الطب التنظيري، إنما كان يتعامل مع الحكاية بروح الفنان وليس بروح الطبيب، فأن يتخلى الكاتب عن صفته الاعتبارية ووظيفته التي لازمته مدة طويلة من الزمن، لينقل لك الأحداث بروح الحكّائين الذين يدركون جيدا معنى أن نحكي بامتياز، هو الفن الحقيقي.
ومما يثير الدهشة فعلا التعامل مع الموت بسخرية عالية جدا، فرغم ما سيقرأه القارئ في هذا العمل من بؤس وشقاء وعذاب وموت، إلا أن هناك سخرية لاذعة تمر أمامه تعطي للحكاية معنى آخر، فجدية الكاتب في تعامله مع الموت تجعله أحيانا يقع في منزلق الوعظ، وهذا ما تداركه الكاتب بسخريته وتشبيهاته وتعاطيه مع الحياة العامة للأبطال تجاه هذا الوحش الذي فتك بهم.
وإذا كانت وظيفة الفن أن يغرس الدهشة في نفوس الناس، فمما سيدهشك حتما أن «لويس نوا»، عامل النسيج الذي جاء بالمرض معه إلى جنوب السودان من بلاد الكونغو، ونشره في المدينة، ليبدأ هذا الموت في اصطياد الناس ودفعهم للمقابر، هو في نهاية الأمر لا يموت، إنما يبقى مع العدد القليل جدا من الناس الذي نجوا من فتك هذا الوحش، فالمفارقة هذه هي أكثر ما سيدهشك، فلو مات البطل لكانت الرواية خالية من عنصر الدهشة، فبقاؤه حيا أعطى للرواية شيئا مختلفا، وما يدهشك أكثر أنه يعود لممارسة عمله في مصنع النسيج مع رب عمله القاسي لينتج للناس الأقنعة والقفازات وكل الوسائل الوقائية خوفا من المرض.
إضافة إلى كل ذلك جاءت اللغة فاتنة وسلسلة، لا تتكلف ولا تتعالم، إنها لغة سردية سهلة تنقل لك كل ما تريد بطريقة جميلة، رسمت لنا المكان والشخصيات وكأنك حين تقرأ تعيش مع الأبطال، لكن ما لم أدركه إلى الآن، لماذا أراد الكاتب أن يواجه الرعب بالفن؟ ولماذا كرر ذلك أكثر من مرة في العمل؟ وما المغزى من ذلك؟.
Alwan_mohd@hotmail.com
تبوك