Culture Magazine Thursday  30/05/2013 G Issue 408
فضاءات
الخميس 20 ,رجب 1434   العدد  408
 
(ركوع) النقد.. في حضرة الأدب (الرخيص)
د. عمر بن عبد العزيز المحمود

 

يجب أن نتفق أولا على أن (الممارسة النقدية) للعمل الأدبي ليست مجرد محاولة الكشف عن محاسنه ومساوئه وتقديمها إلى المتلقي كما يظن كثير من النقاد، بل إنَّ الأمر يتجاوز ذلك إلى التحليق في فضاءات النص، والقدرة على دراسة كل ما يدور حول البنية النصية للعمل الفني، اعتمادا على معايير معينة ينتجها ممارس هذه العملية (الناقد)، فتمكنه من قراءة تلك البنى قراءة نقدية تتجاوز حدود النظرة الذوقية ليصل إلى إخضاع تلك البنى إلى عملية ذهنية تعتمد على وعي حقيقة المنجزات الذهنية، فتكون هذه الممارسة بمثابة الإدارة الكاشفة عن القيمة الفنية والمعرفية للنصوص، ليلتقي الناقد بألوان المعرفة الأخرى ويستقل عنها في آن واحد، وبهذا يسهم النقد الأدبي في تشكيل نوع من الوعي الفني والمعرفي للأديب والناقد بخاصة والمجتمع بعامة. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي للناقد الذي يبغي الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف الكبرى أن تكون خطوته الأولى في المكان الصحيح والموضع الدقيق، وذلك من خلال اختيار النص الجيد، والعثور على عمل أدبي يجمع بين متعة الأداء الفني والتجربة التي تزيد من نضارة وعيه بالعالم والموجودات من حوله، ولهذا يُحذِّر النقَّاد الكبار من الاهتمام بالأعمال الرديئة وإعطائها أكبر من حجمها، أو الانشغال بتحليلها والتحليق في فضاءاتها على فرض أنها تملك تلك الفضاءات التي تستحق أن يحلق فيها، فالناقد الإنجليزي أرنولد بينيت يؤكد في كتابه (الذوق الأدبي: كيف يتكون؟) بأن كثيراً من الكتب الرديئة بمداهنتها إياك، وملاطفتها لك، إنما هي تجذب فيك ناحية الضعف أو الضعة التي فيك، ولذلك يقول: «وإذا أثار فيك كتابٌ ازدراءً، فلك أن تنحيه بعيداً عنك». ولهذا يستشهد خلدون الشمعة في كتابه (النقد والحرية) في هذا السياق بقصيدة قديمة توصي النقاد بألا يتعرضوا للأعمال الرديئة لا بالنقد ولا بالتعريض؛ لأنَّ من ينهش عملاً أدبياً رديئاً سيكون أشبه بالكلب الذي يعضُّ كلباً مسموماً، يموت الكلب ويشفى الرجل المسموم! على أنه يجب الإشارة هنا إلى ما نبه إليه الناقد الإنجليزي ريتشاردز في كتابه (مبادئ النقد الأدبي) حين أوضح أن رداءة العمل الأدبي تأتي أحيانا من التوصيل الرديء، وأحيانا أخرى يكون العمل في أصله رديئا؛ لأن التجربة التي يسعى إلى توصيلها عديمة القيمة، وعلى كلٍّ فالنقاد عادة يصفون الفن بالرداءة حين يثير في نفوسهم تجربة مُكدِّرة.

لقد كان المجتمع في سنوات ماضية ينظر بعين الاحترام والتقدير إلى كلِّ من قام بتأليف كتاب، فما إن تقع أنظارهم على اسمه مرقوماً على صفحة الغلاف حتى تتعاظم صورته لديهم، ويعتلي شخصه في أذهانهم، وكأنه فعل شيئاً عظيماً لا يقدر عليه سوى القلة، حتى دون أن يعوا ما حوت صفحات كتابه، أو عن أي شيء كان موضوعه، وهذا راجعٌ إلى أنهم كانوا ينظرون إلى التأليف بوصفه شرفا لا يناله سوى النخبة، وعملاً لا يقوم به غير الخاصة.

أما اليوم فلم يعد هذا الأمر غريبا على الإطلاق، ولا تجد نفسك متعجبا إذا أخبرك صاحبك (الأفدغ) أنَّ له كتاباً في الأسواق، أو أنَّ صاحبك الآخر ستصدر له رواية بعد أسبوع، مع أنه لا يحمل سوى شهادة ميلاده، ولم يقرأ كتابا واحدا في حياته! لكنها الموهبة وتجارب الحياة!! وأعتقد أن هذا التضخم التأليفي الذي نراه اليوم -وخصوصاً في مجال الرواية بوصفها الأكثر شيوعاً وتزاحماً على أرفف المكتبات والأسهل ممارسةً عند العوام- راجع إلى حركة النقد المحلي التي أسهمت في هذا الرواج الشنيع من حيث يدري ولا يدري، وذلك أنَّ هذا النقد هو المسؤول الأول عن خداع المتلقي العادي، حين قرع الطبول وأقام الاحتفالات وأشعل الشموع وسطَّر المقالات احتفاء بصدور ذلك الكتاب الذي لا يزيدك إلا غبنة وندما على كل هللة دفعتها فيه، أو تلك الرواية التي ضمَّت بين صفحاتها كل شيء سوى الأدب والمتعة والفنية. إن ركوع الناقد أمام هذه الأعمال الرديئة وإسباغ أوصاف الثناء والعبقرية عليها أمر مخز وتصرف مخجل، لا يليق بناقد يثق الناس به، ويعدونه مرجعا في قراءة هذا الأعمال الأدبية وإرشادهم إلى حجم القيمة الفنية والجمالية التي تحملها، دون أن يكون هناك مكان للمجاملات الفجة، والدعايات المضللة، والخاسر الأكبر يظل دوما هو القارئ المسكين الذي يدفع مالا ووقتا ليُفاجأ بكلام تافه لا يساوي الورق الذي كتب عليه، رغم أنهم بدأوا في الآونة الأخيرة بطباعة هذا التافه على ورق مصقول فاخر، يتصدرها غلاف أكثر فخامة، وعنوان برَّاق لافت يحاول جذب العامة الذي ليس لهم حظ في معرفة الجميل من الأدب سوى شكل أوراقه وخداع عنوانه.

إن النقد أمانة، وإذا خانها الناقد بتطبيله لمثل هذه الأعمال الرديئة فقد مصداقيته، وأساء إلى هذا الفن النخبوي الرفيع قبل أن يسيء إلى نفسه، وأسهم بشكل أو بآخر في دفع عجلة النقد إلى الوراء، وقدَّم صورة سلبية مخجلة للنقد الذي طالما عرفه الناس محترما وصادقا، ثم إنه بهذا الركوع المخزي أمام نصوص بلغت أدنى مستويات الرداءة يشجع غيرها من الأعمال التافهة لتتهافت على الظهور على السطح، وتحاول أن تجد لها مكانا بين الأرفف والمكتبات التجارية ودور النشر التي لا هم لها سوى الربح والتجارة، فينتج عن كل هذا أعمال أدبية وممارسات نقدية تحمل من الرداءة والسوء والانحطاط ما يعجز القلم عن وصفه، كل ذلك بسبب نقاد أقبلوا على قراءة أعمال رديئة ربما ظنوا أنهم ملزمون بها، أو أن لعنة احتراف النقد جلبت لهم شقاء قراءتها، والوقوف عندها، والتطبيل لها.

omar1401@gmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة