في الفندق رأيتها أوّل مرّة، كانت تجلس في ركن منعزل، وتشرب قهوتها... مثل شتلة ياسمين كانت تخفق في ذلك الرّكن، وعيناها تلعبان في المكان مثل عيني ظبيةٍ. من أين أنتِ أيّتها الصّبيّة؟ سألتها، فقالت أنا من الأندلس، وأسلافي جاءوا إلى هنا من طليطلة. فجأةً موسيقى ناعمة هبّت من جهةٍ بعيدة، فجأة قمر أشقر أطلّ في السّماء، والفندق صار جبلاً، فيما هبط من قمّته أندلسيّون بثيابهم المزركشة، وجدائلهم الطويلة المزيّنة بشقائق النّعمان.
أتذكّركِ وأهذي
أتذكّركِ، فتنفجر بين يديّ تلك الرّياح الخضراء المحمّلة برتل فراشٍ هائج.
هادئ بيتها على الشّاطئ، هادئ بيتها الذي تحوّم فوقه النوارس، وتحرسه زهور عبّاد الشّمس. ذهبَتْ إلى الشّرفة وفردت جسدها على الأريكة، جلسَت في استراحة قصيرة كما يفعل المحارب. لم يكن هناك ما يشير إلى أيّة حرب خاضتها تلك الصّبيّة، شعرها يترقرق في وهج الظّهيرة مثل ماء النبع، يداها الصّغيرتان صافيتان كالحليب، لكن ما الذي جرى للبحر حتى هاج وأزبد وخمدت أنفاسه، وانطرح أسفل قدميها مثل ذبيحةٍ هائلة؟؟
في عزلتي الخاصّة أجلسُ
ذراعي تؤلمني
أرفعها فأرى ذلك الجرح الغائر فيها من ظلف الصّاعقة.
في ذلك المساء الذي ذهبنا فيه إلى الحفل، حيث أتى العازفون، ورجّوا الأرض بموسيقاهم، في ذلك المساء حيث تفتّت كلّ شيء وتطاير مثل زوبعةٍ عظيمة من الريش، كنتِ هادئةً أكثر ممّا ينبغي. كلّ ما فعلتِه أنّكِ عبّرتِ عن فتنتكِ بالموسيقى ببعض الكلام المتقطّع القليل، وكانت الرّاءات المبتورة تنزلق من شفتيكِ مثل خناجر معقوفةٍ صغيرة، فأتلقّاها مثل ممسوس راح يشرق بالضّحك وهو يرى جسده كيف يتشظّى بالطّعنات الغزيرة.
لأنّكِ تحبّين الورد، أهديتكِ قناع الوردة.
هذا هو القناع، فأين الوردة إذن؟ سألتِ
الوردة في فم الذّئب، قلتُ مازحاً. عندها جفل جسدكِ مثل رفّ حجلٍ مذعور، وانفتحت حدقتا عينيكِ على آخرهما، وأنتِ تصغين إلى ذلك العواء الذي ينفجر حولك مثل حجارة الرّعد. وضعتِ كفّيكِ على وجهكِ، واستدرتِ إلى الخلف نصف استدارةٍ، في محاولةٍ منكِ للإفلات من تلك الأنفاس اللاهبة لذلك الذّئب المتخيّل، ومن خطمه الذي بات قريباً من منطقة العنق.
ما الحبّ؟
أن نعود إلى الأندلس
ومتى نعود إلى الأندلس؟
حين نعود إلى فلسطين.
أندلسيّة يا أندلسيّة، يا غيمةً محمّلةً بوجوه الشاميّين القدامى، وروائح ياسمينهم، يا فرساً طارت ذات يوم من عاصمة بني أميّة، وملأت بصهيلها الأرض حتى حواف الأطلسي، أندلسيّة يا أندلسيّة يا وردة الزّمان، ويا معراج البشريّة إلى الحب والحرّية، أندلسيّة يا أندلسيّة، أيّتها الذبيحة مثلي والمدقوقة على الصّلبان، ترى لِمَ كلّ هذا القتل لكِ ولي؟ ألأنّنا درّبنا العالم على الحبّ، وغسلنا له قلبه الأسود بالموسيقى؟؟
أندلسيّة يا أندلسيّة، بيتي بعيد تدرين! بيتي نسفه الأوغاد بالدّيناميت، أمّا حجارته فقد أخذها هؤلاء الأوغاد ليبنوا منها هيكلهم الجديد. أندلسيّة يا أندلسيّة لا بيت لي لا أهل! أهلي رموني في ألف جبّ وباعوني. اقبليني عصفوراً يدسّ رأسه الصّغير في صدركِ لحظة التّعب، عِرْقَ حبقٍ يهدل بالعطر على شبّاككِ حين تغيب الشمس.
في وحشتي أجلس في وحشتي أترنّح على سفح هاوية، وألمع بالفقد، الأندلس بعيدة وكذلك فلسطين. يا ولداه عليّ وعلى الأندلسيّة الضائعة منذ خمسمائة عام في غياهب التّاريخ! قلبي لم يعد صالحاً لشيء! قلبي محض طلل، وعمّا قليل سوف تنسج العنكبوت بيتها فيه وتغلق فمه الذي يتصبّب بالشّعر والأغاني!
Yousef_7aifa@yahoo.com
Yousef.abdelazeez@alghad.jo
فلسطين