لا يشك أحد في أن الإنسان البدائي لم يكن بالمستوى الذي وصل إليه الإنسان المتحضر بعد حيازته للحضارات التراكمية، غير أنه في مراحل تطور الإنسان المتأخرة أصبح عقله معتمداً بالدرجة الأولى على قدراته اللغوية. فاللغة أسهمت بصورة كبيرة في تفاقم تطورات الأقلمة؛ فهي قامت بدور غير محدود في عمليات التواصل، من خلال تمكين الإنسان من خلق تصورات جديدة، ومحددات جديدة، ووضع تداعيات بعض الأشياء مع أشياء أخرى، وللتشارك في الاستراتيجيات. فالكائنات غير المتطورة لم تكن تستطيع ذلك؛ وقد صار مجال التحدي الحقيقي لدى الإنسان، أن يحسّن باستمرار من قدراته التواصلية، من أجل أن يرفع فرصه في البقاء وإعادة الإنتاج.
فالمهم في التواصل أن يعي الفرد الأنماط التي يستعملها الناس في محيطه، الذي ينتمي إليه، حتى يقترب من معرفة واقع ذلك المحيط والناس أنفسهم. إذ إن أسوأ درجات التواصل تكمن في وضع الناس في أصناف لا ينتمون إليها، سواء من منطلق صفاتهم الأخلاقية، أو الانتماء الاقتصادي – الاجتماعي، أو السلوك الفردي المتوقع في مواقف الحياة. فمثل ذلك التصنيف يؤدي إلى فشل في بناء مسوغات الأحكام، أو الانطلاق من أحكام مسبقة خاصة بالفئة التي صنف المرء الآخر فيها. حيث إن الانطباع الأولي غير كافٍ في كثير من الأحيان، إلا بوصفه مدخلاً للتعرف على مكونات النمط، وليس للوصول إلى الحكم والتصنيف. وفي الواقع أن كثيراً ممن يعايشهم الناس في حياة عابرة، حتى وإن كان ذلك لفترات طويلة؛ يكون التواصل فيها متقطعاً لا يحكمون عليهم أحكاماً صائبة، أو يقدرون فيهم من الصفات ما لا توجد أصلاً؛ سواء بالسلب أو الإيجاب.
والأنماط بحد ذاتها ليست شيئاً ذميماً كما يرى بعض الناس، بل تساعد على الاسترشاد، وهي إشارة إلى انتماء معين، كما تهيئ للناس في حالات جديدة وغير معتادة فرصة التعرف على إنسان يرونه أمامهم لأول مرة، وهل يمكن أن يعد صديقاً أم عدواً. ثم يكون مهماً أن يتحققوا من أن هذا الإنسان ينطبق ويتوافق مع النمط الذي صنفوه فيه.
وثمة أنماط مختارة عن وعي وإدراك؛ فلا يستطيع المرء عندها أن يحدد النمط الذي يتبع إليه. فهو يعرف، بشروط، كيف يكون أثره في الآخرين. هناك قليل من الناس لا يصلحون لأي نمط، فيصعب على أي أحد تكوين صورة عنهم، حيث تكثر احتمالات تصنيفهم إلى فئات متعددة؛ تتشارك في المظهر، لكنها تختلف بعضها عن بعض في مبادئ رئيسة. ومن هنا كانت الخبرة في التصنيف ضرورية للفرد نفسه، قبل أن تكون كذلك للحياة الفكرية في المجتمع والتواؤم بين أفراده.
وقد ظهر نقد الأحكام المسبقة في تيارات فكرية متعددة بدءاً من الفترة الغربية المتقدمة في عصر التنوير؛ فقد أرجع ديكارت منشأ الأحكام المسبقة إلى كون الإنسان يمر بمرحلة الطفولة، ورأى أن البشر بحاجة إلى وقت كافٍ لكي يبلغوا مرحلة الرشد. وبهذا المعنى وردت بعض أوصاف الأحكام المسبقة على أنها مرض من أمراض الفهم، وأن الحكم المسبق يسجن الإنسان في خصوصية تمنعه من بلوغ الفضيلة والسعادة وعالمية الإنسان. وفي هذا السياق أورد دي مارسي في كتابه: «محاولة في الأحكام المسبقة» في تحديد الحكم المسبق: «إنه لمن الواضح أن جميع الآراء الدينية والسياسية للناس ليست إلا أحكاماً مسبقة، بما أنه لا يمكن اختبار الأولى من غير جرائم، والثانية من غير مخاطر». كما وصف روسو الأحكام المسبقة بالسلاسل والأغلال، وبالطبع فإنه لا يمكن تجاوز الأحكام المسبقة والانعتاق منها إلا بواسطة النقد البناء والصريح والمباشر.
الرياض