من القضايا التي يثيرُها استعمالُ الدراسات الأدبية لعدد وافر من النظريات والمناهج المستندة إلى كثير من المذاهب العقائدية والعلوم الإنسانية، مسألة الأثر الذي كان لهذا التوجّه في معرفة الأدب ودرسه. فإلى أيّ حدّ أسهم ما يصطلح عليه بـ»الانفجار التنظيري» في تطوير معرفتنا بالكائن الأدبي؟
للإجابة عن هذا السؤال يحسن التذكير بأن «الانفجار التنظيري» الذي أخذ فيه الاهتمام بالأدب من منتصف القرن الماضي قد اتسم، على امتداد ما لا يقلّ عن أربعة عقود، بثلاث سمات أساسية لم يسبق أن اجتمعت له أو للعناية بمبحث من المباحث سواه.
أولى هذه السّمات أن العمل التنظيري للأدب ودرسه، فضلا عن رفعه لراية العلم مكان راية الإيديولوجيا، تتمثل في الاستمرار، فقد ظل التساؤل عن الأدب ووظائفه مشغلا قائما في الأذهان لا يظفر بالجواب الذي يحظى بالإجماع. ذلك أن كل اتجاه من الاتجاهات التي رغبت في التعرف على الأدب ودرسه كان يستخلص منه وجها معينا يعتدّ به ويبني عليه كلا من الفهم والإجراء. وفي هذا السياق تعدّ معركة «التعدية واللزوم» (تعدي الأعمال الأدبية إلى الإفصاح عن معنى خارجها كالدلالة على حياة الكتاب وعصورهم أو كشفها عن الأبنية الاجتماعية وما يشقها من تناقضات أو البوح بأسرار دقيقة ممّا يضطرب في أعماق النفوس من ألوان العقد والحصارات، أو اكتفاء تلك الأعمال بنفسها وعدم إفصاحها بأي شيء من ذلك) من الأمثلة الدالة على مدى التباين والاختلاف بين تنظير وآخر رغم أن المُنظّرَ له واحد.
أما السّمة الثانية فتتمثل في الانتشار. فقد انتشر التنظير للأدب في كثير من الثقافات بمناطق جغرافية شتى بعضها بعيد عن بعض. فهو، في الرّبع الأوّل من القرن العشرين بالاتحاد السوفياتي مع الحركة الشكلانية، وهو، بعد الحرب الثانية، بإنجلترا وفرنسا، تحت تسمية النقد الجديد والبنيوية وبألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية ليفد، بعد ذلك، على البلاد العربية. وقد جعلت هذه السّمة من العمل التنظيري ظاهرة شبه كونية شاركت فيها ثقافات مختلفة.
أما السّمة الثالثة فتتمثل في مشاركة المعنيين بالأدب من المختصين في درسه وغير المعنيين به ممّن كانت صلاتهم به غير وثيقة. فقد اهتمّ بالتنظير للأدب ودرسه، إلى جانب النقاد المختصين، علماء النفس والتحليل النفساني وعلماء الاجتماع والإناسة وبعض الزعماء السياسيين. فكأنّ الخوض في الأدب قد أصبح مجالا مشتركا كلّ يدلي فيه برأي ويتخذ موقفا.
لم يسبق للظاهرة الأدبية أن حظيت بمثل هذه العناية الكبيرة. ولا يمكن أن يكون ذلك غير دالّ على شيء من الأشياء في هذه المرحلة من تاريخ البشرية وإنها لتتسم بكثير من التعقيد والتشعب على جميع المستويات. يزعم بعض الباحثين على سبيل الجدّ الهازل، عند الوقوف على هذا الأمر، أن المتدخلين في التنظير للأدب ودرسه قد كانوا، في الحقيقة، يرمون إلى وضع اليد عليه حتى لا يفوتهم مجهول في الأسرار التي تكتنفه قد ينطوي على ما لا يحسن بهم أن يكونوا عنه غافلين.
أما الذي نتج عن هذا الانشغال بالظاهرة الأدبية على هذا النحو الباعث على العجب فقد تمثل، من بين ما تمثل فيه، في شيء من الإقرار بأن الأعمال الأدبية قابلة، خلافا للغالبية الغالبة من أجناس الكلام (أو الخطاب في الاستعمال الحديث)، لأن يأخذ كلّ منها حاجته على مقدار ما يفهم منه ويرغب فيه. فمثلما يمكن للمؤرخ أن يجدَ فيها ضالته يمكن لعالم النفس أو عالم الاجتماع أو الإناسة أن يجد فيه طِلبَته. بل إنه يمكن لأيّ قارئ من القراء الذين لا يدخلون عادة في الحساب أن يجدَ في تلك الأعمال الأدبية، ما كان منها رائعا أو لم يكن، الحاجة التي يطلبها.
هذه النتيجة، وهي في الظاهر من أمرها على حظ وافر من البساطة، تسْلِمُ إلى فهم للأدب على غاية من الأهمية. فأن تكون الأعمال الأدبية قابلة لأن تعثر جميع النظريات الكبرى المتنوعة والمذاهب العقائدية والعلوم الإنسانية المختلفة فيها طلبتها، مع ما بينها من تنابذ في معظم الأحيان، وتنشدها إنما يعني أن الأدب يمكن أن يعتبر الخطابَ الذي تتمثل إحدى خاصياته الأساسية في قدرته على توفير ما تطلبه منه الطوائف المختلفة معرفيا أو المتنابذة عقائديا. فكلّ يبدو قادرا إذن على أن يأخذ منه ما يشاء. غير أن ما يأخذه منه هذا أو ذاك، وهذا من خاصّ أسراره، لا ينقصُ منه شيئا. فهو كالكنز الذي لا يُرى كاملا والذي يمكن لكلّ أن يسحب منه ما يحتاج إليه دون أن ينقص منه ذلك السّحبُ شيئا. فالذي يطلب من الأعمال الأدبية فائدة نفسانية أو اجتماعية أو أخلاقية يمكن له أن يحصل عليها دون أن يؤثر ذلك منها في شيء. وهذه الخاصية الكبيرة الأولى التي تتميّز بها الأ عمال الأدبية عن سواها من الخطابات هي التي سمحت للنظريات المختلفة أن تجد فيها، مع تباينها وتباين ما تطلبه منها، على ضالتها. وهو أيضا نفسه الذي فتح الأبواب لشتى المذاهب العقائدية والنزعات الفكرية والعلمية حتى تجد في الأعمال الأدبية ما تلتمسه وتبحث عنه. وهذا كله يعني، عند التأمل، أن الأعمال الأدبية إنما تختصّ، من بين ما تختصّ به، بأنها طاقة مقدّرة منطوية على نفسها في كل عمل فذ، فهي، دائما، جاهزة فيه لأن يأخذ منها كلّ ما يرغب فيه. ولعل هذا هو المقصود من ذهاب كثير من الباحثين إلى أن الأعمال الأدبية الفذة لا تأتي عليها قراءة من القراءات مهما كانت فذاذتها. فهي دائما تفيض على ما يوضع لها من تأويلات.
غير أن الأعمال الأدبية إذا كانت على هذا النحو، والغالب أنها كذلك فعلا وحقيقة، إنما تترتب عليه نتيجة أخرى لا تقلّ أهمية عن هذه التي ذكرناها. إنها النتيجة التي تتمثل في أن «الأدب» هو أحد الأنشطة التي ظلت تمتنع عن الخضوع لأيّ سلطة من أيّ نوع كانت. ولا يرجعُ ذلك فحسب إلى أن الحكم بأدبية العمل الأدبي أو لا أدبيته لا يتم بمرسوم من المراسيم أو قرار من قرارات السلطة بما في ذلك سلطة النقاد أنفسهم وفي التاريخ أمثلة كثيرة حاول فيها أصحاب النفوذ وضعَ اليد على الإنتاج الأدبي فلم يتم لهم ذلك، بل إنه يرجعُ، من بين ما يرجع إليه، إلى أن القراءة الإيديولوجية، لا تأخذ، كسائر القراءات، من روائع الأعمال إلا ما يمكن لها أن تصرّفه في الحاضر من شؤونها الحياتية، دون أن ينقص ذلك منها شيئا. إنها تأخذ، في الحقيقة، ما لا علاقة متينة له بجوهر الكائن الأدبي. والسرّ في هذا أن الإبداع الأدبي، في الخاص من حقيقته، إنما هو عمل حرّ أو هو الحرية نفسها في حالة ممارسة. وهذا يجد تأييده في أن الإبداع الأدبي أبعد من القواعد، فالامتثال لها، مهما أدرك من درجات الإتقان، لا ينتج فنا راقيًا، واحتذاء النماذج أو تقليدها لا يخلق إبداعًا رائعًا. معنى هذا، في ما نحن بصدده، أن منتجَ الحرية في نطاق ممارستها القصوى شيء لا يمكن إخضاعه بوضع الضوابط له أو التحكم فيه. ثم إن هذا يجد تأييده أيضا في أن الأدباء لا يتقيدون في ما يصنعونه من أعمال بمراجع يمكن الاحتكام إليها في التثبت من مدى جودته.
تونس