للأديب والكاتب عبدالعزيز الصقعبي مسار روائي جميل، ونكهة سردية مميزة، تشعر فيها بنضج الرؤية وثمرة الإبداع لا سيما وأنه قد عرف مسرحيًّا متميزًا وكاتباً للنص المفتوح على احتمالات الحياة، لذلك امتزجت صور الإبداع السردي بما هو مشهدي مؤثر، ليبرع كثيرا في رسم صور بانورامية غاية في الإتقان من دون إطالة أو إطناب.
رواية «مقامات النساء» الصادرة هذه الأيام عن دار جداول تعطي بعدًا آخر لعوالم السرد التي ينتهجها الصقعبي، حيث يبني رؤيته الروائية على مدلولات حكاية موثقة وغير مختلقة، وتسير نحو مضمون مقنع يكشف خبايا الذات وولعها وبحثها عن كل ما هو جميل، ومشرق حتى وإن كان في زمن فاتر وعالم مادي خائر القوى.
ينتهج الروائي الصقعبي في تفاصيل «مقامات النساء» أسلوب كتابة المذكرات، أو بناء النص على مرتجع الذاكرة من بقايا طرف وأحاديث ومواقف معبرة حينما تجد لغة سردية وأدبية مناسبة ستكون في غاية المتعة والتشويق وهذا ما سعى إليه واستبطنه الكاتب لخلق مناخ استلهامي يفضي إلى لحظة تنوير مناسبة تتمثل في أن حكاية الإنسان لا بد لها أن تبنى على رؤية متوازنة، تقيس الأمور من منظورين مهمين: واحد جمالي، والآخر واقعي يصف المشهد بتجرد وعفوية.
مقولات الشخوص الثلاثة في العمل (حسن وحامد وأنور) مفصلات فنية حاذقة تدور عليها فعاليات النص ومشاهد السرد إذ يضطلع (حسن) بمهمة صياغة هذه الرؤى دون أن يتنازل الملهم (أنور) عن دوره ومكانته في النص، ليقيم رؤية عريضة تؤسس لفعل أكثر خصوصية يحرك فيه الأحداث ويكشف عن أبعاد ومسببات العلاقة بينهم كمجموعة وبين البحث عن طرف مؤثر يتمثل في النصف الآخر من حياتهم والمتعلق دائماً في المرأة، حيث تأتي الشرارة الأولى من ثلاث نساء بسيارة واحد، لتوقد نار السرد، فيحشد الثلاثة لسعائرها أنواع كثيرة من حطب الحكايات المترعة بتوق الاحتراق شوقاً للحياة والجمال، أما النصف الآخر للمعادلة الصعبة فإنه على هيئة صراع خفي أو معلن بين الرجل والمرأة.
تتهادى الرواية على نحو لوحات سردية يغلب عليها طابع الوهج العاطفي الناز بالتوق إلى السفر من أجل أن تأذن الحياة لهم بمزيد من متعة اللقاء في أي أرض وفي رحم أي حكاية ووفق أي زمن على نحو رحلتهم إلى «سلطنة عمان» كحاضن مكاني عام ومن ثم مشاهد منتجع بحري على ضفاف الالتقاء بين بحر العرب وخليج عمان لتتفاعل مشهدية الحضور نحو محفز قوي يشعل الذاكرة بمخزون القول ومفاجآت الحكاية التي لا تنتهي.
رؤية السرد تسترشد بفكرة الأوراق الذاتية للشخوص المترعين بحكايات ندية، وبرؤى وذكريات لا تزال عالقة بالذاكرة على نحو لوحة (حسن) حينما يربط بين وجه امرأة رآها في المنتجع وبين وجه (دعاء) الفتاة العابرة مجاهل الذكرى في وجدانه وحياته.. فقد كانت بالفعل لوحة معبرة وحكاية تحمل مضامين الحياة حينما تأتي على هيئة ومضة معبرة وغاية في الروعة والإتقان.
الروائي الصقعبي يقدم من خلال هذه اللوحات السردية واقعاً جمالياً للنص الأدبي الحديث، إذ يغلب على هذه الرواية طابع الاستطراد الزماني لاستحضار صورة معبرة من الماضي ودمجها بالحاضر على نحو أوراق (حامد) حينما يسعى إلى تقريب صورة الفقد لأمه مع ما سواها من صور فقد للمرأة في الحياة المعاصرة، لتأتي هذه الرحلة العمانية راسمة تفاصيل الحكاية التي يبوح فيها أمام القارئ وذلك بمعية رؤى أخرى تؤسس للفكرة العامة لكتابة النص وفق رؤية البناء الجمالي لكي لا تطغى بعض الصور على البعض الآخر.
فالرواية لا شك أنها تنهل من معين لا ينضب من نهر الكلمات والحكايات المعتقة..
إلا أن اللغة السردية الأنيقة للصقعبي تعيد رونقها بشكل جميل وتمازج بين الفكرة والنص، ليأخذ شكل الممكن، فتنتهج الرؤية مزيداً من استجلاب المفاجأة والبحث عن ما يغري من أجل متابعة القراءة.
تؤصل الرواية بشكل عام لعلاقة ممكنة بين الرجل والمرأة على نحو ما يخطه العنوان الرئيس للعمل (مقامات النساء) إلا أن السرد يتطلب زج الكثير من الشواهد والإلماحات بكل ما له علاقة في هذه المجال الإنساني على نحو أحاديث لا تنتهي للشخوص وعلاقاتهم بالنساء ليس من قبيل وضع الرؤية في دلالاتها المألوفة إنما بمفاجآت قد تأتي لتحفز ما هو عادي، من أجل أن يكون في صلب النص مؤثراً وفاعلاً فيرقى إلى مستوى الاهتمام والمتابعة، وهذا ما برع فيه الروائي الصقعبي في هذه العمل وغيره من أعمال سابقة تعد بحق علامة مميزة في نسيج روايتنا المحلية المشبعة بالفكرة المكتملة ووجود الزمان والمكان المناسب واللغة الحاذقة والشخوص الذين يبرعون في أداء أدوارهم بكل اقتدار.
* * *
إشارة:
مقامات النساء (رواية)
عبدالعزيز الصقعبي
دار جداول بيروت ـ لبنان (ط1) 2013م
تقع الرواية في نحو (166صفحة) من القطع المتوسط