Culture Magazine Thursday  10/01/2013 G Issue 393
فضاءات
الخميس 28 ,صفر 1434   العدد  393
 
التجريد الفلسفي
عبدالله السعوي

 

إذا كان الإمام الغزالي قد اقتصر في نقده للمنطق على مبدأ العقلانية ومبدأ السببية وهو من أدق الاشتغالات النقدية تشخيصاً فإن الإمام ابن تيمية قد تجاوز ذلك إلى نقض المرتكزات الجوهرية التي عليها ينهض الاستنباط المنطقي والقياس وهو الأمر الذي تقاطع معه عليه لاحقا جون استيوارت مل, وفرنسيس بيكون الذي دعا إلى تشكل منطق استقرائي مغاير للمنطق الاستنباطي الصوري الذي يحتفي بصورة الشيء على حساب مادته وينتقل من الكليات إلى الجزئيات وطالما سيطرت تلك الآلية على الذهن الفلسفي وتحكمت بمفاصله.

الملمح الأكثر بروزا في الاشتغال المنطقي عند ابن تيمية يبدو في ذلك الاشتباك مع الكليات العقلية العامة التي يتعاطى معها أرباب المنطق بوصفها مقدمات بديهية ضرورية ذات طابع يقيني تُبنى على ضوئها الأقيسة المنطقية حيث أحاطها ابن تيمية بدوائر عريضة من الشكوك التي تنفي يقينيتها حينا, وتقلل منها إلى حد كبير حيناً آخر مقررا أنها من قبيل المعطيات النسبية التي تتفاوت العقول البشرية في تقديرها, وأنها موجودة في الأذهان وليست مواد ذات كيان خارجي متشخص بذاته في عالم الأعيان وبالتالي فالبرهان المنطقي المستند إلى تلك الكليات لا يفضي - بالضرورة - إلى علم يقيني بقدر ما يفضي إلى معطيات ذات أبعاد ظنية لا تتجاوز أسوار الذهن.

العلم الحق عند ابن تيمية هو الذي يستند للمنهج الاستقرائي الواقعي فيستقي الحقائق من العناصر الجزئية المتموضعة في الخارج, والانتقال من جزئي إلى جزئي آخر, وقياس الغائب على الشاهد بعيدا عما يمارسه كثير من الفلاسفة حيث المبالغة في التجريد الذهني المبتور الصلة بواقع الحياة,والانغماس في ممارسة التحليق في عالم الإمكان العقلي المطلق الذي يتجافى عن عوالم المحسوس فيغرق في المثال مستدبراً معطيات المتعين الجزئي الذي يفترض أن تُستوحى منه القواعد ولذلك يُفرّق ابن تيمية في سياق نقضه لمعالم البناء المنطقي بين الإمكان الذهني المتكئ على التفكير المجرد حيث الذهن هنا يفترض وجود الشيء لمجرد علمه بإمكان وجوده لا لعلمه بوجوده, والإمكان الخارجي المستند إلى الاستقراء الحسي للوقائع المادية المتشكلة في الخارج حيث الذهن في هذا المساق يقرر وجود الشيء لعلمه بوجوده كمادة متشكلة وكحقيقة متعينة تشغل حيّزا من الحسي, أو بوجود ما يضارعه, أو بوجود ما هذا الشيء أولى منه بالوجود وهو ما يُستدل عليه عن سبيل مفهوم الموافقة أي عن سبيل ما يجري توصيفه أصولياً بـ: فحوى الخطاب أو القياس الجلي.

وهكذا تشكل الثورة التيمية على المنطق التقليدي النواة الأولى والبداية الفعلية لتَخَلّق منطق استقرائي تواصى عليه أرباب المنطق في قالَبه الأكثر حداثة.

Abdalla_2015@hotmail.com - بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة