(أ)
يقولُ المعرِّي: (أمَّا الحَقِيْقَةُ فَهْيَ أَنِّي ذَاهِبٌ، وَاللهُ يَعْلَمُ بِالَّذِي أَنَا لاَقِ)
فمَا يقدرُ عاقلٌ الشكّ بحقيقة الموتِ؛ وهنا تكون (الحقيقة) على معنى وجود الشيء ويقين حدوثه ووقوعه على كلّ شيْء، لأنّها الحقيقة الفنائيّة المقابلة لحقيقة وجود الحياة نفسها؛ أمّا دون ذلك فإنّ الحقيقةَ قائمةٌ على الافتراض وليس من طبيعتها أن تكون نهائيّة، فالقول بنهائيّتها لعنةٌ تُفضي إلى وقف السيرورة والصيرورة، ولا تكون إلاّ بتبدّل كينونة الإنسان والأشياء، فجمود الحقيقة يعطّل تطوّر كلّ شيْء ويرسّخ حالة زمانيّة ومكانيّة متشابهة إلى درجة من الملل تفقد فاعليّة الوعي، الذي من طبيعته ووظائفه عدم الرضوخ للحقيقة، حتّى حقيقة الموت والحياة، فتراه يصارع الموت على أمل هزيمته: بدءاً من أسطورة جلجامش حتّى الخريطة الوراثيّة للإنسان.
وفي لغة العرب اهتدي لدلالات متعدّدة للحقيقة، يهمّني منها قولهم: (إنّ الحقيقة ما يحقّ على المرء أن يحميه، وحقيقة الأمر يقينه، وقيل هي الفناء، وخلاف المجاز)، أمّا الأصل في المقاييس فواحدٌ يدلّ على: (إحكام الشيء وصحّته). ويكاد لا يخرج الاصطلاح بعيداً على تعدّد نظريات الحقيقة –(بين أصل الأشياء، والبديهيّات، والعلائق الترابطيّة، وقوّة الواقع، وتراكميّة المسار التاريخيّ للثقافة والفكر)؛ وأفهم من التعدّد بين اللغة والاصطلاح أنّ طبيعة الحقيقة نفسها متعدّدة، وأنّها لا-نهائيّة؛ أمّا الزعم أنّ دلالة الحقيقة متمثّلٌ في أصل الشيء وجوهره فمشكوك في تماثل قوّته التأثيريّة والمنفعيّة بين حاله الآن وأصله؛ فأصل الماء من مواد قابلة للاشتعال لا يتماثل مع واقعه، فالقوّة لواقع الشيء وليس لأصله.
ولأنّ الحقيقةَ مرهونةٌ باتّفاقٍ وإجماعٍ وهو ما يتعذّر وقوعه جاز القول: إنّ الحقيقة نسبيّة أو منسوبة إلى حاملها وناقلها؛ هكذا تكون الحقيقة تعدّديّة وقابلة للتداولة.
(ب)
إنّ غياب مفهوم سيولة الحقيقة ومدى ارتباطه بالواقع، والظنّ أنّها نهائيّة تكاد تطغى على الذهنيّة العربيّة المعاصرة، وتجعلها في مراحل عديدة مبتعدة عن إدراك الواقع وحقيقته القائمة على منطق القوّة، أو ما يسمّى: (سياسة الحقائق والوقائع على الأرض)، ممّا يأسر الذهنيّة في الحقيقة النهائيّة التي شكّلتها التراكمات التاريخيّة، ويقوم سدنة المجتمع بتحصينها على أنّها حقيقة معصومة، حيث ملكيّة الخير والحقّ والصواب؛ وهي ذهنيّة لا ترى ما هو قائم وتعيش على ما تظنّه (يجب أن يكون)، وهذا الظنّ ليس قائماً على معنى صلاحيّة الانتفاع الزماني والمكاني، بل على معنى (الحقيقة النهائيّة) لأنّ سدنتها ينظّرون للواقع على أنّه خادم الحقيقة، في حين أنّ الحقيقة بوجودها الافتراضيّ خادمةٌ للواقع.
ولعلّ في هذا ما يفسّر ابتعاد العربي اليوم عن صناعة التاريخ نظراً لاستسلامه للتاريخ النهائيّ الذي صنعه سابقاً فلا يفارقه، فالاستسلام للحقيقة النهائيّة يكفّ الإنسان عن إنتاج الحقائق وإذا لم تنتج حقائق وتقوم بتطويرها فإنّك لا تصنع تاريخاً حيّاً، فصناعة التاريخ لا تكون بالامتثال إلى نموذج نهائيّ، وقوّة الحقيقة في طبيعتها أنّها متداولة وليست مستقرّة، وشيء من هذا في المتن القرآني: (وتلك الأيّام نداولها بين الناس)، فكلّ تداول للواقع يحمل تداولاً للقوّة والحقيقة أيضاً، لذلك فإنّ تجاوز طبيعة تداوليّات الحقيقة يعثّر الواقع الراهن ويجعله فاقداً للأهليّة الزمانيّة والمكانيّة، فلا نحن نريد أن ننتمي للواقع بينما نستهلك كلّ منجزات حضارته، وفي الوقت عينه نرفض ما يقدّمه من حقائق وراء صناعة حضارته.
***
والحقيقةُ فكريّاً لم تكن طيّعة، ولم يستقرّ عليها اتّفاق بين المفكّرين والعلماء، وإن كنتُ هنا أتبنّاها على الافتراض وعلى الاصطراع بين دلالتين مؤثّرتين في الحقيقة: (الماديّة التاريخيّة، والقوّة الواقعيّة)، حيث دلالة الحقيقة الماديّة التاريخيّة متمثّلة في التراكم التاريخي والثقافيّ الذي يصنع الإنسان وحقيقته، ودلالة الحقيقة الواقعيّة متمثّلة بقوّة الواقع وقدرته على فرض الحقائق؛ وبين الحقيقة الماديّة التاريخيّة وبين الحقيقة الواقعيّة تجد الذهنيّة العربيّة اليوم إذ تغلبها الحقيقة التاريخيّة فتعمى أن ترى الحقيقة الواقعيّة، حينما تتحدّث عن: (الأمّة الإسلاميّة، العالم العربي، فلسطين التاريخيّة، سوريّا الكبرى، الدولة الحديثة، الانتماء، المواطنة، اللاطائفيّة، اللاعنصريّة، اللاطبقيّة، حقوق الإنسان، الحوار الوطني، حوار الأديان) وهي (حقائق مزعومة) ليست موجودة على أرض الواقع ومشكوك بتراكماتها التاريخيّة بالطريقة التي يصدّرها أصحابها؛ ممّا يعني إقصاء الواقع والاحتماء بما تظنّه الحقيقة. لذلك لا يمكن مناقشة الحقيقة ودلالاتها دون الالتفاف إلى الحقيقة الواقعيّة التي قامت على أثرها (الولايات المتحدّة الأمريكيّة) وهي منتجة الحضارة الراهنة، هكذا يكون نوعاً من العناد الحضاريّ والمرارة الانهزاميّة إقصاءُ الحقيقة الواقعيّة لأنّها غير أخلاقيّة ولا تُناسبنا (على الظنّ) في صراعنا مع العدوّ الإسرائيليّ، الذي نصارعه أو نفاوضه من منطلق الحقيقة النهائيّة، كأنّه لا يملك حقيقته النهائيّة، وشيء من هذا التصادم العقيم أُعلن أنّه سببٌ في تعثّر مفاوضات قمّة كامب ديفيد في سنة 2000 بين (الراحل ياسر عرفات، إيهود براك، بيل كلينتون).
الواقع على الأرض صانعُ الحقيقة ومصدر قوّتها، وأيّ تعديل ومُعارضة لهذه الحقيقة تكون في الواقع ممارسة وصراعاً، لأنّ التفاوض على الحقائق عقيم لا يُنجز، لأنّ الحقيقة افتراضٌ فكيف يكون التفاوض على افتراضٍ يدّعي ملكيّته كلّ الأفرقاء!
هكذا لا تكون الصراعات السياسيّة ذات إنجاز إلاّ بتخطّي لعنة الحقيقة النهائيّة، ولهذا كان (الزعيم عرفات) يصرّ على تسمية اتّفاق أوسلو (بسلام الشجعان)، لأنّ الشجاعة تمثّلت في تخطّي الحقيقة النهائيّة لدى جمهور كلا الطرفين، فالحقيقة النهائيّة عائق لا يُحرّكه إلاّ من أُوتي قوّة استثنائيّة، لا على تجاوز حقيقته التي يصدّرها، إنّما إقناع الجماهير التي يمثّلها وهي القوّة العاتية والحامية للحقيقة.
هكذا تكون الحقيقة الواقعيّة السياسيّة قيّمة في إحلال حقائق على الواقع بديلاً عن حقائق أخرى، وتطويع الواقع بمكوّناته لقبولها بالقوّة والانتفاع منها، وهي ما يُدعى صناعة الحقيقة، ولا تتمّ الصناعة من قبل السياسة حتّى تتمكّن منها في عقول الناس المنتفعين من ورائها، لأنّ إشكال الحقيقة الواقعيّة السياسيّة أنّها قد تكون أقوى من التشريع السياسيّ التنفيذي لأنّها تبرز في مواجهة مع الجماهير، وهي إشكاليّة نجح فيها الأوروبيّون الأمريكان مع سكّان حضارة المايا الأصليين، بينما عجزَ الإسرائيليّون على نشرها مع السكّان الأصليّن لفلسطين التاريخيّة.
(ج)
كما إنّ غواية الحقيقة واقعةٌ في منطق الاستبداد، العنصريّة، الطائفيّة، التمييز الجنسي الطبقي؛ فالاستبداد يظنّ الحقيقة في بقائه منفرداً بالسلطة، والعنصريّة تظنّها في تفوّق دمائها والتمييز الجنسيّ يظنّها في الذكوريّة، والطائفيّة تظنّها في المذهب؛ وهذا ما أسمّيه لعنة الحقيقة النهائيّة، وإليها أزعم تشويه مفاهيم الخير والشر -ولست أقصد تعدّديّة المفاهيم عينها بين الأفرقاء- إنّما بالنسبة لحامل الحقيقة نفسها، حين يمارس أعمالاً لا تنتسب إلى مفاهيم الخير والشر التي يصدّرها ويحملها، ولعلّه لا يعي هذا الالتباس الذي يقع فيه، حينما يحرّم أو يجرّم سلوكيّات ثمّ يمارسها ضدّ المختلفين عنه؛ ومنهم من يحوّل تلك المفاهيم من خانة الشرّ إلى خانة الخير تحت التباس ولعنة الحقيقة النهائيّة، إذّاك يتشابهون مع المأزق الإسرائيليّ فيما يخصّ قراءتهم للوصايا العشر التوراتيّة بين الغريب والقريب: (لا تقتل أخاك، لا تسرق أخاك)، فأيّ قيمة للحقيقة والأخلاق إذا كانت قائمة على جلب منفعة لأفراد وإحلال ضررٍ بآخرين، وهو ما نخشى وقوعه اليوم داخل دول المنطقة العربيّة كلّها، حين يتقنّع الأفرقاء جميعاً دفاعاً عمّا يظنّه كلّ فريق أنّه (الحقيقة النهائيّة)، إذّاك فلا يصلح بينهم حوارٌ ولا تشريعٌ، لطالما تحوّل الأفرقاء إلى سدنة للحقيقة النهائيّة يضحّون بالواقع والإنسان في سبيلها، هكذا تؤول الحقيقة من خادمة للإنسان إلى طاغية يخدمها الإنسان وتستبدّ به.
Yaser.hejazi@gmail.com
- جدة