Culture Magazine Thursday  10/01/2013 G Issue 393
فضاءات
الخميس 28 ,صفر 1434   العدد  393
 
حج ابن رشد
معجب الزهراني

 

لأول مرة أرسل رسالة إلى شخص ميت واثقاً أن الإجابة يمكن أن تصلني في أية لحظة. نص الرسالة سؤال بسيط واضح: «هل حج ابن رشد؟».

والحقيقة أنني أردت أن أسأل بورخيس عن رأيه الخاص فيما إذا كان فقيه قرطبة وقاضي قضاتها قد مات قبل أن يرى سرة العالم وقلب الإسلام ودرة بلاد العرب.

لكنني قلت أتريث حتى يرد.

ثم إنني لا أريد أن أثقل على الحكيم الأعمى الذي ما زارني طيفه إلا وأنشدني بيت زهير الشهير:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

أما الآن فإليكم خبر ما حدث كما حدث، ولن أستطرد وأفصل.

قبل سبع سنوات سألني أحد الصحفيين المصريين السؤال ذاته.

أصر على مرافقتي إلى كازينو النيل قبيل المغرب.

أثنى الماكر كثيراً على البحث الذي ألقيته صباح اليوم عن «فصل المقال».

وقد أو شكت أن أصدقه حين قال إن كلامي جريء ولن يمر بسلام.

تساءلت عن وجه للخطر في أن يقال، وتلميحاً لا تصريحاً، إن الحوارية في الكتابة الرشدية مصدرها الفكر الفلسفي اليوناني وليس الأدب العربي أو الديانة الإبراهيمية.

وحين لم أتبين شيئاً من هذا تيقنت أن مصطفى يتكلم هكذا خوفاً من الصمت لا غير.

طلبت ما ينعش الروح ويمحو الكدر وانصرفت تماماً إلى النهر.

وحينما رأى وجهي يتجلى منتشياً بالماء وبأمواجه المتراقصة تحت الأضواء طرح علي ذلك السؤال الغريب!.

والتوقيت هو ما جعلني أتساءل عما إذا كان صاحبي يبحث عن فتنة وليس عن معلومة.

ولكي لا أقع في الفخ طلبت منه أن يحكي لي عن آخر قصة حب عاشها فضحك وقال «واحنا فاضين يابيه».

طلبت منه أن يغني بصوته الجميل شيئاً عن بحر النيل فقال «سامحني.. مش وقته يا فندم».

عندها قررت أن أصعد الموقف.

سألته عن مشكلات نظره الذي كان من الواضح أنه يزداد ضعفاً ولن يسمح له بالتمتع بالمشهد الفاتن في لحظة كهذه.

وبعد أن رأيت آثار القلق والأسى بادية على وجهه الناحل شعرت ببعض الشفقة فعدت إلى الموضوع مسيطراً على مسار الحديث.

نصحته بأن يوجه السؤال غداً إلى أولئك الخبراء الذين امتلأت بهم القاعة، ولا بد أن بعضهم قضى الوقت الطويل يقرأ ابن رشد ويكتب عنه.

وكم فوجئت حين قال إنه سألهم واحداً واحداً فلم يجب أي منهم بنعم أو لا!.

- ولم تظن أنني أعرف أكثر منهم وأنا لم أنشغل بالمعلم الثالث إلا عبوراً، ومن باب المحبة لا غير؟.

- أحدهم نصحني بذلك مؤكداً أنك كتبت عن الموضوع من قبل.

- أنا..

كتبت عن الموضوع من قبل؟!.

- هذا ما قاله صديقك العراقي، وقد سمى الجريدة التي نشرت فيها «نصاً هجيناً يجمع ما بين القصة الفنطازية الطريفة والمقال العارف» كما حدد.

عندها تذكرت كل شيء.

فعلاً النقاد أكثر الناس ولعاً بالقراءات الضالة.

وقد يكونون أبرياء، لكنهم يورطون كثيرين ممن يحسبونهم حجة في كل شيء، والدليل هو هذا الخبر ذاته.

فما كتبت هو شكل من أشكال التعليق الحر على نص بعنوان «جمل ابن رشد» لعبد الفتاح كليطو طغت عليه نبرة ساخرة كئيبة تليق بالموضوع أو الثيمة.

وأقصد هجرة الفلسفة إلى بلاده ثم ترحيلها ثانية إلى الشمال الذي منه أتت.

والحكاية الأصلية معروفة.

فحينما مات ابن رشد كان لابد من إعادة الجثمان إلى قرطبة (لم يذكر الكاتب ما إذا كان الفعل اجتهاداً من السلطان، أو مشورة من حاشيته وخاصته، أو إنفاذاً لوصية الفقيد ذاته).

وهنا وقع الحدث المحزن.

يقال إن الجثمان ظل يتمايل يمنة ويسرة، وما من شيء حقق توازنه على ظهر الجمل سوى كتبه، وكتبه الفلسفية تحديداً!.

هكذا مضى الحمل المهيب إلى غايته (هنا أيضاً غفل الكاتب عن شيء أهم يتعلق بما حدث عند وصول الموكب إلى شاطئ البحر، وأرجح من جهتي أنهم وضعوا الجمل بما حمل في السفينة وإلا لعاد إلى مراكش وفوقه كل تلك الكتب الثمينة).

ولم أصدق الحكاية، أو أنشغل بدعوى متأخرة ضد خصوم الفلسفة المعروفين بالأمس واليوم.

لكنني استمتعت بلغتها وببعض أحداثها الطريفة حقاً.

وأظن هذه المتعة هي التي أغرتني بالكتابة عن جمل آخر حمل الجثمان ذاته من قرطبة إلى مكة المكرمة.

فهناك حقيقة معروفة منذ فجر الإسلام إلى يوم الناس هذا.

فمكة كلها مقدسة، والعناية الإلهية تصونها من كل مدنس.

ونظراً لكونه من المحال أن يطلع البشر على ما في قلوب البشر فإن كثيرين ممن يموتون قريباً من بيت الله العتيق يدفنون في مقبرة المعلاة.

وفي الثلث الأخير من الليل تتوافد جمال خضراء - طيراناً - من كل أنحاء المعمورة حاملة جثامين المؤمنين الحقيقيين إلى المقبرة الشريفة، وناقلة الأجساد الدنسة الفاسدة بعيداً عن البقعة الطاهرة.

كل ليلة يحدث هذا، ولابد أنه يحدث بكثرة تتناسب مع عدد الموتى المرتفعة في مكان يحلم كثيرون بانتظار القيامة فيه (لم أود صلاة في الحرم قط من دون أن أصلي على موتى، رجال ونساء).

ولأنني أثق تماماً في عقل أبي الوليد وأحسن الظن في قلبه فقد حسبت أن رفاته يرقد في المعلاة فيما روحه النبيلة ترفرف سعيدة بين حدائق قرطبة ومساجدها وقصورها، مثله مثل ابن حزم وابن عربي.. وحتى موسى ابن ميمون ربما.

- سرحان في إيه يا فندم؟!.

- لا.. أبداً.

قلت لك إن لدي موعداً مهماً بعد صلاة العشاء مباشرة ولا بد أن أنصرف.

نهض فودعته ثم عدت إلى المكان ذاته.

طبعاً، أنا أيضاً أعرف أن الحج العقلي والحج القلبي مقبولان إن شاء الله.

لكنني أحسنت صنعاً إذ كتبت تلك الرسالة وألقيتها في النهر لأستمتع بالسهرة وميرال التي أعجبتها الحكاية فضحكت ومالت عليّ وضمت صوتها إلى صوتي.

- الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة