د/ عبدالعزيز محيي الدين خوجة
621 صفحة من القطع المتوسط
عبر الرحلة الطويلة والجميلة مع شاعرنا الإبداعي وداخل عقله وحقله المنتج بالأشعار والثمار طوف بنا حول محراب الحب الذي اصطفاه لنفسه مختاراً لا محتاراً كمسافر وكطائر غريد يحمل جناحيه الشدو والشجو معاً لنستمع إليه وقد سافر في عيني محبوبته التي ألهمته الكثير من أدبيات الحب:
كفجاءات الالهام طلعت كالبدر
أيقظت الأعلام لعمري
أبهى من كل الأقمار
أحلى من كل الأشعار
العين قصيدة.. والشعر قصيدة..
والخطوة إيقاع سحري
تحدث عن الثغر بسمته.. والهمة في وقعها.. واللمسة في إيقاعها.. والشعر المجدول خلف كتفيها.. لم يترك شيئاً إلا واحتواه حتى شهادة الحب:
فآخر شهيد الشعر على النحر
فتناديني المعينان وتأخذني
تغرقني في عمق البحر..
نهاية عشق لذيذة..
يطول الفراق.. يلتهب معه مرجل الأشواق شذا وعبقاً:
واعرف أني وهم كبير
وان غرامي رؤى خاطري
فبيني وبينك باب مخيع
ومهما طرقت فلن تشعري
لعلي أيمم نحو الهروب
فعذرك أنك لن تقدري
وعذري أني أردت المحال
وبعت الفؤاد ولا مشتري
الممانعة في الحب أقسى ما يتحمله القلب.. الأسوار المغلقة لا ينفذ إليها الضوء..
ما إن ينتهي شاعرنا الإبداعي من موقعه حتى يواجهه واقع آخر يختلف عنه مذاقاً ولوناً.. هذه المرة يريد من لحونه أن تغرد:
غردي يا لحون الهوى الغرد
أغمضيني على حلمك الرغد
مثل نسمة شوق على الموقد
تنعش الليل بالطيب للمشهد
المشهد لا يحتاج إلى شاهد.. انه الفرح الذي عبر عنه بوضوح في مقطوعته الرائعة حبيبي في صيغة تساؤل:
من الأحلام حبت أم الغيوب؟
ومن ألقى بحسنك في دروبي
كأني قد بدأت اليوم عمري
وأول ما نطقعت بدن حبيبي
لأول مرة يشدو فؤادي
بأغنية الغرام بلا رقيب
ولا أخشى العوازل إن تمادوا
فحبي فوق معترك الخطوب
من حقه أن يفرح بعد صدود طال أمده ساحة عراك لا ينتهي بين قيسنا وليلاه.. انها قصة الحياة المشبعة بالعرض وبالرفض.. بين من يهوى ومن لا يهوى.. أخذت من شاعرنا الشكوى.. واعطت لشاعرنا مشاعر تأبى أن تستكين ولو إلى حين.. تلك هي ميزة التحدي، ولكن دون تعدي..
الشبه القائم بين قائمته الشعرية يشبه أسرة متشابهة في خصومتها وفي رضاها تارة بالرفض الذي لا يصل إلى القطاعية.. والقبول الذي لا يرقى إلى الاستسلام هذا ما أمكن قراءته لمجموعة من عناوينه.. ومفردات شعره مما يوحي بصراع وجداني أشبه بالبركان لا يهدأ.. حممه باقات ورد.. أو بطاقات عتب كلتاهما لازمتان ومتلازمتان لمشاعر شاعر يرى الحياة عشق لابد من بوح يتحدث عنه.. وينطق باسمه:
آه كم أعشق نفسي
حيث فيها أنت نفسي
أنت فيها حين أغفو
حين أصحو حين أمسي
لم يجد لخاطرته ولا لخاصرته شيئاً يستحق الإضافة
يا حياتي انت مني
جوهرا يوقد حسي
حتى الألم استبعد به شاعرنا كان حلوا كالعسل في فمه.. حتى في حالة الصدود: اجتزئ ما يلي:
حبها طاب له
غزو قلبي فاضطرم
صدها يؤلمني
آه ما أحلى الألم
شاعرنا له صبر أيوب في عراكه مع حسناواته إلى درجة أنه سئم الرهان وطالب بالهجران لحكمة في نفسه:
أهجريني بعض وقت
ثم عودي وصليني
لست أهوى الأسر حتي
بين أطباق الجنون
أنت لي ساعة حب
بعدها يخبو حنيني
ولكن إلى حين.. أخذاً بالمثل زر غباً تزدد حباً.. أو كما قالت سيدة الطوب فيروز وزورونا في السنة مرة.. أكاد أغرق من طوفان حبه.. فما أن أطوي صفحة حتى تقابلني صفحات وصفحات فيؤسية تكاد تنطق بهواجسه الملتهبة.. ويبدو أنها ستأخذنا عبر رحلة البدء والمنتهى في صراع جديد ومتجدد لا هدنة فيه ولا مسألة معه.. ماذا عن الموهم الذي تحدث عنه شاعرنا الملهم الدكتور عبد العزيز خوجة؟!
اني هنا ألعوبة
للريح والوعد الكذوب
روحي على ارجوحة
قلبي على مرمى الدروب
أرديت في صمت إبائي
في هوى حلم طروب
ولمست وهماً في الكيان
ثوى على جرحي الغضوب
شكاية عن نوع آخر غير المألوف عنه.. إنها قصة الوهم الذي يسكننا لحظة غياب وحضور ذهني.. لا أحد في منأى عن عارض يشده إلى مالا يمكن استحضاره.. لحظة فشل أو وحل عارض..
عللت نفسي بالمني
وذبحتها كي لا تؤدب
ليتك يا عزيزي ردعتها دون ذرع.. الزجر يكفي..
كأني رأيتك إحدي قصائدي المشبعة بالحنان والوفاء وقدسية الحياة..
كأني رأيتك عبر الزمان المتلبد
كزوجين كنا وعشنا غراما سعيد
طاف وإياها بين الكواكب على أجنحة شعرية فضائية.. اختار لها النجوم.. قدم لها روعة فداء.. ماذا نريد أكثر من هذا؟!..
أحبها قصيدة ثنائية أشبه بالتوأم لقصيدته السابقة (منك) المنشورة في الحلقة الأولى.. لا شيء جديد أكثر من عنوانه الجديد (أنت كل شيء)..
كل العالم يا سيدتي في كفة ميزان
ولحاظك أنت وحنانك أنت
وغرامي كله أنت في كفة مزان
لماذا هذا الاغراق والاستغراق في رسم الصورة الشعرية..؟ لم تكن مجرد صدفة.. ولم تكن مجرد توصيف يستحق الإشادة والانبهار فلحاظها قمري.. وفي عينيها أخفى أسراره وفي بحر أهدافها نسي المكان.. وزهر الأكوان.. هذا كل ما كان يشده إليها.. أليس أعذب الشعر أكذبه؟ وأحياناً أقربه إلى النفس حين ترتاح لشيء ما تستطيبه دون غيره..
بعد عراك مستمر مع فارس رحلتنا.. وبعد معاناته وتجربته توصل إلى حقيقة مؤادها أن النساء كلهن سواء..
ليلى وسلمى كلهن سواء
وقلوبهن كحبهن قواء
ووعودهن كعهدن خواء
ووصالهن كبعدهن شفاء
وجهة نظر تعميمية لشاعرنا قد لا يوافقه عليها آخرون.. فكما في النساء يوجد في الرجال من حبهم أشبه بهشيم تذره الرياح.. في مقطوعته (الهواء الطلق) يا أحد يريح سوى الهواء:
لا أنت أنت ولا النسيم رقيق
الصبح يبكي والمساء يضيق
والليل مطفأة شموع سمائه
لا النجم خل ولا الهلال صديق
ماذا أبقى لنا شاعرنا المعتد والمحتد بغضبه كي يقصر الدرب معه.. ونبحث عن خلاص يرسي قاربنا على شط الأمان؟!
لا شيء إلا الهجران الذي لا رجع فيه ولا تراجع معه.
قل للتي هجرت مراتع انسها
تلك الأماسي ما لهن رفيق
وكما يقول المثل (قطعت جهيزة) قول كل خطيب قالها شاعرنا وقد رحل فؤاده إلى مرابع رحلها دون أن يلقى قلبها ماذا قالت له حبيبته ذات مساء وهو يحتسي فنجان قهوة؟.
أخاطب السماء كل ليلة فيمثل القمر
وتسقط النجوم بين شرفتي وشهقتي مطر
تعالي لي نغازل السماء في السحر
كم عشقيك..
نسي عندها جنونها.. وصار نبض خافقه كرئات وتر يتلاعب بالأسماع لإيقاعاته العذبة.. وحين سألته:
- من أنا؟
جاء جوابه:
- انك القدر
لوحة بانورامية تقاطعت فيها بين حوار وحوار إطاره الثقة المتبادلة.
شاعرنا وقد ملّ عقل الجنون نزع مختاراً إلى جنون العقل.. وما أحوجنا إليه.. إلى البحث عن وقت نعطيه فيه نقاهة ومساحة واستراحة يسترجع فيها أنفاسه:
نحتاج بعض الوقت أيضاً للجنون
نحتاج أيضاً للنزق
نلهو كالأطفال في اشياطنا
حفاظاً على إيقاع البيت وددت لو أنه جاء.. نلهو كما الأطفال في أشيائنا ويسترسل قائلاً:
اشتاق أن أغفو على صدر حنون
اني تعبت في السباق
كم هو جميل أن نلوذ سوياً إلى حنون الجنون أن فيه الخلاص من النكد..
(يقظة ضمير) دافعها الخشية والخوف من أن يجمدها السير خلفه على جادة حب مليء بالأشواك والأشواق:
أخاف عليك شقاء الفراق
فعمر الوفاء قصيد بدر لي
فيوما تراني كطفل وديع
ويوماً أبيع ضميري كذئب
ويوما تراني أعاصير شك
ويوماً أن في تاريخ حي
أعيش حياتي بلا مستقر
فراش يهيم وقلب يلبي
صارحها بأسباب خشيته حتى لا تقع في الفخ.. حسناً جاءت النصيحة درء للفضيحة الشعرية..
عوالم الأشياح مرعبة لا أحد يرتاح لها.. وإنما يرتاع منها.. لنستمع إلى شاعرنا المرهف وهو يتحدث عنها:
عيناك الساحرتان مرايا تسكن عمق الأعماق
لا ألمح فيها كذبة أو لونا من ألوان نفاق
لكني أعرف منها أنك في دنيا أخرى
أخذتك بألف جناح
كشف لنا عن دنيانا الأخرى:
أعرف أنك ترتادين عوالم تسكنها الأشباح
وأرى في عينيك صفاف جنون براق
وقراصنة نهبوا من فتنتك الاشراق
يسائلها هل أنها تخشى؟! وقد صارعها.. وصادقها وأعطى لها مفتاح شبابه فدلفت إليه من كل الأبواب.. ولكن..؟
سيدتي.. ألغيت نفسي بنفسي من قائمة العشاق
إني ألغيت غرامك منسياً خلف الآفاق
حسناً فعل:
معين الحب لا ينضب من نهر وجدان شاعرنا دون أن يجهد.. لأن الحب لديه حياة.. ولأن الحياة لديه حب غير ملوث:
أحبك أنت ومن في وجودي
ولكن هواك غرامي الأثير
فأنت لقلبي شعور رقيق
وأنت لنفسي جمال مثير
وأنت لعيني خيال عجبيب
وأنت لعمري شبابي النضير
بكل حواسه الأربع.. قلبه، ونفسه، ونظره، وعمره كافية لاقناعها.. ولإشباع روح الصدق لديه.. فهل صدقته؟!
لم تجب.. لا أدري هل سمعته: أم أن في قلبه وقراً.. لقد أدى ما عليه وأكثر..
اتجاوز في حب بعض المقطوعات المعبرة التي تحمل صوراً وأفكاراً مكررة.. ونقف سوياً مع مقطوعة (وجد):
هو وجد يغشاه الوجد
ورحيل ينساه الحد
ما بين الثغر إلى السكرة
وفناء الفطرة في النظرة
في الرعشة ينكسر القيد
فيطيب مع العشق السهد
ثقافة توصيفية لخلجات معبرة عن إعجابها بالصورة والحركة تنتهي إلى الآتي:
ما أحلى أن تتداعى الفطرة
لو يأتيني أو آتيه
لوصال يسعد هاويه
هذا وعدي وله العهد
(لو) حرف تمنى.. لا يجدي نفعاً..
* الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 ـ فاكس 2053338