المقولة الذائعة الصيت للإمام نجم الدين الطوفي - رحمه الله- والتي أضفت على الحراك الجدلي بعداً إضافياً حادّ التدافع وذلك حينما طرح فكرة تقديم المصلحة على النص لاقت تلك الفكرة رواجاً كبيراً وتم التسويق لها على نحو معزول عن اشتراطاتها المفاهيمية وبعيداً عن المقاصد الأصلية التي أريد لها من قِبل هذا الأصولي الحنبلي الذي أشار في معرض حديثه عن تلك الفكرة في كتابه (التعيين في شرح الأربعين) النووية إبان شرحه لحديث «لا ضرر ولا ضرار» أشار إلى عدد من الاحترازات الاستدراكية التي لا يسوغ موضوعياً تجاهلها لما لها من بالغ الأثر على تشكل صورة ذهنية على صعيد المعنى في هذا السياق.
إن النص بطبيعته وبحكم ربانية مصدريته يتعذر أن يتعارض مع المصلحة، إذ النصوص وعلى وجه الخصوص تلك النصوص الصحيحة من جهة الثبوت الصريحة من حيث الدلالة هي من يرشد إلى أشرف المصالح, ويهدي إلى أجدرها بالتحصيل.
كون النص يدل على المصلحة هذه حقيقة أصلية الوجود فهي اتفاقية نصية وليست تحقيقية اجتهادية قابلة لتعدد الرؤى والقول بأن النص لا ينطوي على مصلحة أو معارض للمصلحة هذا بضرورة الدلالة اللزومية يعني اتهاماً مبطناً للنص وحكماً قاطعاً بعبثيته وتفريغاً له من ذلك المحتوى الذي تواطأ على تحديد كنهه أرباب الاختصاص وهذا المضمر الضروري للقول بتعارضهما هو ما كان متفطنا له الإمام الطوفي مما حداه للتصريح بأن المصالح لا تقدم على النص القطعي، بل حتى ولا على النص الظني الذي يعضده دليل آخر, ولا تقدم على النصوص المتصلة بالعبادات والتقديرات والحدود فهذه كما يصرح الطوفي في رتبة نائية يتعذر أن يتماسّ معها النظر المصلحي العقلي المجرد.
أيضاً الطوفي لا ينزع إلى تقديم المصلحة إلا حينما يتعذر الجمع بين المصلحة والنص، إذ حينئذ في هذه الحالة فقط يقدّم المصلحة ولو تأملت في تلك الحالة لألفيناها ليست تأخيراً للنص بقدر ما هي ضرب من التخصيص لعمومه وهذا يؤكّد أن النظرية الطوفية متسقة وإلى حد كبير مع النظرة الأصولية وإن باينتها جزئياً، إذ لا تخلو أطروحته من مآخذ لكنها ليست بالحجم الذي يراد تصويره لكنها في مجملها تتقاطع مع المنهجية الأصولية السائدة والتي تقرر صوابية تخصيص العموم حينما يعتور ذلك العموم قدر من الضعف أو حينما يكون مفتوحاً على أوجه عدة من الاحتمالات على نحو يبرر تخصيصه انبعاثاً من نصّ نظير له, أو من قياس يفضي استدعاؤه إلى تجسيد ضرب من التخصيص لعموم النص من جهة ودفع التعارض - البادي لأول وهلة - عن النصوص من جهة أخرى وهذا عند التمعن لا يعد تقديماً بقدر ما هو بيان وتخصيص.
الطوفي لا يرد النص لكن قد يؤول حيثيات نظامه اللغوي على نحو يتماهى ومصلحة مّا شهدت لها مدارك الأحكام بالاعتبار, وبالتالي فهو لم يرده بقدر ما جعل الصدارة لتفسير آخر على ظاهر النص وأحياناً يعمل على تقديم المصلحة لتموضع قدر من الضرورة التي تسوغ تخلف الحكم الأصلي العام - لانتفاء شرط تشكله - مفسحاً المجال لضرب آخر من مدارك الأحكام لتكون له الأولوية في هذا الظرف اللحظي كما في قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات».
النظرة الطوفية كثيراً ما يتم توظيفها وبقوالب شعاراتية متأدلجة ولا تراعي مقتضيات الشرط المعرفي الذي سار الطوفي على ضوء محدداته ولا ريب أن استدعاء تلك المقولة مع تغييب أبرز الأصول المنهجية التي تنطلق منها ليس من الموضوعية في شيء, إنه اقتيات على ذلك العلم الأصولي وتشويه ممنهج لتلك المقولة الشائعة.
إن المصلحة عند الطوفي كما يصرح هو بذلك ليست تلك المصلحة العقلية الصرفة، بل هي تلك التي تآزرت الأدلة على اعتبارها وهذا يؤكد أن المصلحة عند الطوفي تغاير في بعدها المفاهيمي المصلحة في نظر تلك الذهنية المتحررة من ضوابط الاشتراطات الأصولية الصارمة فالحدود مثلاً تعد من قبيل المصلحة في نظر الطوفي في حين أن إلغاءها والقفز على المعطى النصي المقتضي لها هو الذي يجسد المصلحة في منظور الفريق الآخر الذي يتعاطى مع النص كعبء ثقافي يراد الانعتاق من إلزاماته ولذا لا سبيل إلى تهميشه - أو تحييده على أقل تقدير!- إلا بتطبيع الذهنية المنفعلة به وتأهيلها لافتراض أن النص شيء والمصلحة شيء آخر فهما نقيضان يتعذر تفعيل أحدهما إلا بإقصاء الآخر وهو الأمر الذي كان الطوفي يتحاشاه ويقرر نقيضه.
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة