كثيراً ما يحرص اللغويون على التفريق بين معاني الغبطة والحسد، الألم والتعب، وغيرها من المترادفات التي تحمل فروقاً دقيقة في المعنى، وربما فروقاً في النية والمقصد. وحينما تنجح هذه التفرقة اللغوية في مجالات مختلفة، مثلما يحدث ذلك في المجال الرياضي، حيث يؤكد الرياضيون أن المنافسة الشريفة لا العداء هي ما يشعل اللعبة والحماسة للفوز، بينما التربويون الذين يهتمون بمثل هذه الفروق في المعاني، ويحافظون على دقة اختيار هذه المفردات في خطابهم التربوي، لا يلتفتون إلى أن العلوم النفسية لا تتناول الحالة الإنسانية من خلال لغة هذا الخطاب المنمق والتقليدي الذي يحافظ على مثاليات لا واقعية، لا لأن هذه الفروق اللغوية بين الغبطة والحسد بلا معنى علمي فقط؛ بل لأن علوم النفس لا تدرس لغة الخطابات التي لا تمثل النفس البشرية؛ بل تدرس وتحلل لغة الوعي واللاوعي في العمليات الإدراكية للإنسان، وتهتم بلغة التفكير وبالشعور واللاشعور، بالغريزة التي تشكل الأساس النفسي للإنسان.
العلوم النفسية تغوص في الصراعات الداخلية للإنسان لا في أدبيات ومثاليات الثقافة التي يعيش فيها، أما الخطاب التربوي الذي يصر على تصوير الوالدين كملائكة رحمة عاطفة وحانية، لا تعرف الشر، ولا تخطئ في شيء، وأنه مهما تكلف الأبناء من واجب البر بآبائهم فلن يكفيهم حتى ولو كان بالحَجِّ بهم على ظهورهم، هذا الخطاب المكدس بلغة منفصلة تماماً عن الحقائق العلمية وعن كل الواقعة الحية لتاريخ الإنسان الاجتماعي، هو خطاب لا يجد عند الدراسات النفسية أي معنى، فالعلوم النفسية لا تدرس الإنسان بوصفه أماً أو أباً، ابناً أو زوجاً أو عماً وخالاً، هي تدرسه كإنسان فقط، فيه من الغريزة البشرية ما يشترك به مع كل البشر، بمن فيهم ابنه أو أمه.
مشكلة الخطاب التربوي لدينا أنه منفصل عن الواقع وكل حقائق البيوت، منعزل في واجبات ثقافية بمكونات دينية وقبلية، هذا الخطاب الذي يخلق من الآباء أرباباً لا يخطئون، يحبون أبناءهم، ويستحيل عليهم أن يعيشوا مشاعر الكره أو الحقد أو الثأر والانتقام، الخطاب الذي لا يفكر بالأب والأم كإنسان لديه غريزة الغيرة وحب الذات وشعور الذنب، غريزة البقاء والصراعات الوجودية، هذا الخطاب هو ما يفاقم المشاكل داخل بيوتنا، ويضاعف الأخطاء فيها، ويحافظ على المنطق الذي يخلق هذه الأخطاء، وعلى الثقافة التي تعشعش فيها هذه البيوت لا كشبكة عنكبوت دقيقة ومنظمة وملهمة في قوتها رغم رهافة خيوطها في الوقت ذاته، بل تعشعش بيوتنا كشبكات بشرية فاسدة تغذي ثقافة الجهل والانغلاق والعزلة عن الكون.
في كرة القدم وبقية الألعاب تنجح هذه الفروقات بين المنافسة والعداء، فالفريق المنافس خصم وليس عدواً، والربح هو فوز بالنقاط لا نصر معركة، والروح الرياضة تتوج عندما يبارك الخاسر الفوز لخصمه، بينما في بيوتنا، في المحضن الأول للإنسان، لا تدار الحياة كلعبة بقواعد محددة ومعروفة، لا يختار الإنسان بيته ولا عائلته، الآباء ليسوا فريق كرة ننضم إليه، نختار تشجيعه أو دعمه، البيوت قدر يسبق وجودنا، والآباء ليسوا حكاماً في اللعبة مدربين على تحكيم مباراة من ساعتين، يطبقون قواعد محددة مسبقاً لا حول لهم ولا قوة إلا حسن إتقان الأداء، الآباء بشر قبل أن يكون الأبناء بشراً، وإذا ما كان الخطاب التربوي يحث على البر لأنه يؤمن بأن الابن إنسان قد يعق بوالديه، فهو من الأجدى يؤمن بأن الأب والأم إنسان أيضاً يمكن أن يعق بأبنائه.
الأبوة والأمومة ليست تطهراً من الحالة الإنسانية، من الأنا والذات، من الغيرة والكره والحسد والغل والحقد والثأر، ومن كل المشاعر السلبية اللاخيرية في الإنسان، الأبوة والأمومة مجرد علاقة بين الناس تماماً مثل علاقة الأخ بالأخت والصديق بالصديق والطفل بالجد، هي فقط علاقة مسؤولية والتزام، تستجيب لنداء الأنا بكونها سبباً في وجود كائن آخر، هذه الأنا في الأب أو الأم قد يتضاعف حبها لذاتها فتشعر بأن سببيتها في وجود أبنائها ذريعة كافية لتملكهم، استعبادهم بمشاعر الامتنان الذي لا ينتهي، ثمة مشاعر وأفكار وسلوكيات كثيرة يمكن أن تؤذي الأبناء من آبائهم، ولكن الخطاب التربوي الذي يصر على تصوير الوالدين كملائكة متطهرة لا يعالج أياً من هذه المشاعر أو السلوكيات والأفكار، لا لأنه عاجز عن الحل؛ بل لأنه لا يعترف بالمشكلة. لن ينجح الخطاب التربوي في تحسين أي بيت من بيوتنا ولا أي علاقة في حياة الإنسان السعودي طالما لم يعترف بأن الأب والأم مجرد إنسان يمكن أن يقتل حتى أبناءه.
lamia.swm@gmail.com
الرياض