للشعر قدرةٌ عجيبة على حفظ نفسه، حتى ولو كانت فرصته من النشر في أضيق الحدود، فكل جملة مكتملة شعرياً من أيّ قصيدة ستجد طريقها للناس، أو سيجدها الناسُ في طرقاتهم مهما اختفت أو غيِّبت عنهم في زوايا غامضة حيناً من الزمن..
في مقالتي السابقة، الخميس الماضي، قلتُ في سياق استعراضي لمجريات الفعاليات الثقافية بين رسمية وخاصة هذه العبارة: (ثم تدنى جانبُ الشعر، وتضاءل حضورُ متابعيه..) فأتتني رسالة عاتبة من أحد المتابعين الأوفياء يتساءل فيها بمرارة: أهو اعترافٌ منك بتدني الشعر؟ ولم أستطع اختصار الإجابة عن سؤاله برسالة مماثلة، لأنني رأيتُ حتمية أن يكون الجوابُ إيضاحاً عاماً لكل من قرأ تلك المقالة واستوقفته العبارة..
أقولُ: لن أختلقَ تبريراتٍ أفلسفُ بها تلك العبارة، ولن أستعيد سياق الفقرة من تلك المقالة لأشرح مقصدي.. ولكني سألتفُّ على المسألة بالعودة إلى حكاية رائعة من حكايات الحكيم الإغريقي أيسوب (620 – 560 ق.م) تقول: (انقضَّ نسرٌ ضخمٌ من أعالي الجبال بسرعة خاطفة وأمسك بمخالبهِ المثقفةِ خروفاً سميناً وراح يلتهمه على مهل؛ فرأى المنظرَ غرابٌ حسودٌ كان يتمشى في الهواء فأحسَّ بالغيرة من النسر وقرر أن يتقمَّص دوره وينافسه، فاختار حملاً صغيراً وانقضّ عليه، غير أن مخالب الغراب اشتبكت بفروة الحمل فأخذ يضرب بأجنحته عبثاً ليخلّص نفسه حتى جاء راعي الغنم ورأى الغراب مشبوكاً من مخالبه على ظهر الحمل فأمسك به وربط جناحيه وأخذه لصبية الحيّ يتسلون به ويلعبون)!
المغزى الأدبي من هذه الحكاية، أنك حين تقرر منافسة غيرك في مهمةٍ لم يخلقك الله لها، وأدواتك غير مهيأةٍ لمثلها.. فإنك ستمنح العاطلين والهواة مجالاً للتسلية واللعب بك – دون غيرك! - ومن المعروف عن الغربان أنها لا تخاف الصقور والنسور، بل إنها تقترب من النسور وتزعجها أثناء انشغالها بأكل فرائسها حتى تتركها لها وتطير في فضاءات أخرى..
فما علاقة كل ذلك بالشعر وتدني جوانبه؟
أعودُ إلى الجملة الأولى من هذه المقالة: (للشعر قدرة عجيبة على حفظ نفسه)، فشطرٌ من الشعر مكتوبٌ على جدار غرفةٍ معتمة وسط ضجيج المدينة، أو على رملةٍ راكدة في صحراء قاحلة.. يستطيع البقاء محفوظاً في قلوب الناس ومتداولاً بينهم لعصور وأجيال، في حين تظهر على الجوانب وتختفي ألفُ موسوعةٍ (وأنطولوجيا) ومهرجان ومؤتمر وفعالية وندوة وأمسية.. كلها تحاولُ الشعرَ، تتقمَّصُ بعضَ جوانبهِ وتتسمّى به، ولكنها تشتبكُ عالقةً بهوامش لا تطلع منها أبداً إلاّ بمجالاتٍ للتسالي.. سرعان ما يدنو بها الأجلُ!
من (القصيدة الأولى):
فلكلّ شيءٍ، قبلَ أن يأتي وعودْ
ولكلِّ نافذةٍ مساحتُها التي خَرَجتْ على الطُرُقاتِ
تجتذبُ السلالِمَ
ثم تنثرُها طريقاً للذينَ سيصعدونَ إلى الخلودْ
هذا هو المطرُ الذي تحتاجُهُ الصحراءْ..
هذا هو السَفرُ الذي ردَّ الوريدَ إلى الدماءْ..
هذا هو الوترُ الذي انسحبتْ خيوطٌ منهُ قد لُفَّتْ على جسدِ الوليدْ
لُفَّتْ على جسدِ الفقيدةِ والفقيدْ
لُفَّتْ على دربٍ ستعبرهُ امتحاناً، ثم تبحثُ عن دروبكَ في البعيدْ
وعن المتاهات التي..
كم ذا سيرسُمُها الذينَ توسَّعتْ فيهم جيوبُ النارِ،
تعرفهم يداكْ..
وعيونهم، لو كنتَ لم ترَها.. تراكْ.....
* (القصيدة الأولى)، هكذا عنوانها، وهي آخر القصائد في ديوان (الصوت.. الشارع)
الصادر عام 2002 لكاتب المقالة.
ffnff69@hotmail.com
الرياض