اجتهد كبارُ العلماء خلال القرون السالفة بما من شأنه وضع أُسس التقعيد والتأصيل لحالات تناول.. مسائل شتى.. في سياسة الحكم على ما يتناوله الآخرون من بذل التصنف في الاجتهاد العلمي، وكذا: العقلي واللغوي وفقه المستجدات.
ولكن حينما عول كثيرٌ من المتأخرين إلى هذا الحين حينما عول كثير منهم على عجلة القراءة وسرعة الاستنتاج وعاطفة الحكم أو إن شئت قل تبادل الثناء بين بين لحال ما أو مصلحة ما أو زمالة أو تكسب جرَّ هذا كله على أن ترى ما يطرح اليوم في الزوايا والمقالات ودراسة العمل العلمي.. أو اللغوي.. أو الاجتهادي أن ترى تكرار القول وتنميق اللفظ ومحاولة بذل الجهد بدعوى الإضافات المستجدة، وهذا منذ ردح طويل من الزمن أظهر إنشائيات البحث حتى ولا جرم في الرسائل العلمية العليا بل وزيادة على الأبيات بيت من الشعر جرَّ إلى المحاكاة والسطو ونقل اللفظ هو هو.
ففي أساسيات: معاجم الألفاظ الحديثية ومعاجم مفردات اللغة، ومعاجم معاني أقوال الأقدمين من: الفقهاء.. والأصوليين والنحويين.. وعلماء البلاغة.
في كل من هذه الأساسيات (دلك اللهُ وهداك قارئي العزيز) تجد هشاشة الطرح وتجزئة القول، ولا يتبين هذا إلا لحصيف جيد الفهم أو لحصيف سديد الرأي أو لحصيف لا ينشد لذاته شروى نقير من ظهور أو سمعة أو نشدان إرادة يسعى لها، وأنت حين تنظر ما خطه يراع (جمال البناء) أو قلم (قسطنطين زُريق) أو ما صنفه (لويس عوض) أو ما بذله (محمد أراكون) أو ما بذله (سلامة موسى) أو (جرجي زيدان) أو (ميخائيل نعيمة) تجدك (نفع الله بك) إذا سلمت من وخز تأثر ما أو سلمت من ضعف تلقٍ وحزت على نباهة وصفاء ذهن وقاد حر متمكن بعد اطلاع جاد هاد مركز على بذل الزيلعي صاحب (نصب الراية)، أو ما كتبه (ابن عابدين) في: (الحاشية) أو الجوهري في (الصَّحاح) أو ابنُ حجر في (هدي الساري) أو الكتاني: في (الرسالة المستطرفة) أو ابن تيمية في: (درء تعارض النقل والعقل) في حال فقد ولعل الذاكرة فضلاً من الله تعالى تُسعفني على إيراد أسفار هي موضع شك كبير اهتبلها كثير من الناس اليوم وأعجبوا بما جاء فيها من آثار وقصص وروايات ثم هم نظروها بواسع من عقل جليل. أقول هذا بعد عمل واجتماعات ذات أهمية بالغة تجعلني أستنطق الذاكرة رويداً رويداً على الإتيان بلازم ما يلزم نحو هذا. فخذ مثلاً وهو فيض من غيض: ما كتبه: جرجي زيدان. أو: لويس عوض. أو جمال البناء.
تدبر بشيء من سعة البال وعمق النظر وأريحية الاطلاع على ما كتبه ثقات المتقدمين في مجال: الرواية، أو اللغة أو الأدب، تجدك بحاجة إلى العودة جزعة إلى مناهل أصول ما كنت بحاجة إليه قبل هذا.. ولا كلام وأنت تقرأ كذلك: (الأغاني) أو (خاص الخاص) أو (تهذيب الأغاني) لطه حسين، أو تقرأ ما كتبه (حسين ابن أحمد أمين) أو تمر مروراً وأنت حصيف جدّ حصيف على ما يطرح الآن من: آراء.. واجتهادات وذكر لآراء منقولة أو بذل وجهات نظر فأصدقك القول أنك تحتاج إلى تأمل حالك بعد ذلك كيف هي الآن..؟. إن العقل حينما يُريدُ صاحبه القراءة، أو هو يريد الاستنتاج أو الحكم على مقروء ما يتباطأ شيئاً فشيئاً حتى تتضح له الرؤية.
إن العقل في حال تدبره ونظره ومعاودته هذا وذاك إذا كان عقلاً حصيفاً يتبصر دون أخذ وبذل هكذا ودونما قطع أو حكم ما.
إن القراءة العجولة أو حب الكتابة أو مجاراة الكبار أو نشدان سد الفراغ كيفما اتفق أو محاولة التقليد كل ذلك شائن مشين.
إن قراءة زاوية لكاتب واحد مدة نصف عام تجدك بعد ذلك تقرأ الزاوية نفسها بأسلوب وطرح مختلفين والمعنى فقط: (أنا هنا)، ولا سيما (زوايا النقد) تلك التي ليس لها من اسمها إلا الإثارة ومحاولة السمعة ولهذا لن تجد أحداً من المتضلعين الأجلاء يناقشون لأنه لا يقرأ.. زاويته.. إلا هو ولعله يعيد قراءتها مراراً رضاءً بما كتب وحباً بما صنع.
إن ابن قتيبة حينما وضع (عيون الأخبار) ووضع (أدب الكاتب) وحينما طرح: الآجُري (أخلاق العلماء) وطرح: الرافعي (وحي القلم) لم يفعلوا ذلك من فراغ.
جزماً أجزم به لم يفعلوه من: فراغ، فجرب ناهيك بما كتبه أو ما صنفه ابن قيم الجوزية في سفره الخالد: (بدائع الفوائد) أو الآخر (الفوائد) وهو أصغر منه حجماً لعلك إذاً تنحو باللائمة على ما فعله أبو الحسن الأشعري -رحمه الله تعالى- صاحب كتاب (الإبانة) فهل قرأته..؟ تنحو باللائمة قارعاً سن نادم كما صنع حينما تبين له الحق فسلكه وأبان حينذاك عور وعوار مسيرة سوء الفهم وضعف الإدراك عند قوم نفض ثيابه وترك سبيلهم ليذكر للقرون بعده كم هو شائن تقديم القلب على العقل السليم.
ومن هذه الحيثيات فإن الحال الحاضرة تتطلب مزيداً من التدبر بروح سليمة لعل تجديداً يكون.
الرياض