بعد استلامي مهام نادي القصة السعودي عام 1408هـ/ 1988م، كان أول عمل مطبوع بدأت في مراجعته وتصحيح الطباعة الأولى له هي رواية الروائي والكاتب/ إبراهيم الناصر الحميدان، في روايته غيوم الخريف، أي أني من خلال هذه الرواية جاءتني فرصة التعرف عليه عن قرب، بعد أن قرأتها كثيراً وفي نسخ متعددة، ثم قابلته في بيته الأول في حي الملز، وفي مقر الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون: نادي القصة السعودي، ثم بعد الطباعة والتوزيع والاهتمام بها ووصولها إلى أيدي القراء، ومن خلال الهاتف تواصلت معه من أجل خططي للنادي، وفيما أنا مقدم عليه. كل ذلك تم بعد أن حلمت أوائل عام 1396هـ/ 1976م بمعرفة الكاتب/ إبراهيم الناصر صاحب مجموعة «أرض بلامطر» التي قرأتها في ذلك العام، وهي أول مجموعة قصصية سعودية تدخل مجموعة كتبي، التي بدأت تتكون آنذاك.
كان الناصر مسروراً من خطواتي في نادي القصة السعودي التي اهتمت بالمقام الأول بالقصة القصيرة، نصاً ودراسة واحتفالاً، ثم في مركز المعلومات الذي بدأت في خطوات تكوينه، ثم في استفادتي من كتاب أذرع الواحات المشمسة ليكون ملفاً، ثم دورية للنادي باسم: الواحات المشمسة، الذي كان مستشاراً له، ثم توطدت العلاقة معه عند تفكيري في تكريمه مع الرائدين/ عبدالكريم الخطيب وعبدالرحمن الشاعر، وقد سَره هذا الصنيع أيما سرور وبهجة، لأنه أول تكريم يناله من هيئة رسمية في الوطن، وأحمد الله أنه فتح باباً مباركاً عليه، حيث كرم وقدر من جهات متعددة، كان آخرها العام الماضي1432هـ/ 2011م من قبل نادي الباحة الأدبي في ملتقى الرواية السنوي.
وقربت منه في مواقع أبوية حميمة للأجيال التالية له، وذلك في مسابقات النادي التي كان يعقدها سنوياً، ليكتشف الأسماء الجديدة، والطاقات القادمة في كتابة القصة القصيرة، وكان محكماً فيها بطريقة جميلة، إذ لم يكن يعطي الدرجة على كل نص فقط، بل أنه يعلق ويذكر مواطن القوة ومواطن الضعف في كل نص، وكذلك الجماليات التي يجدها فيذكرها باستحسان، ويحاول الضغط عليّ لمعرفة الأسماء للنصوص المتفوقة، إلا أني أؤجل طلبه لأيام قادمة، وأعده أني سأخبره عن كل شيء، لأن الأسلوب الذي كنت أتبعه تصوير النصوص من غير عناوين أو أسماء، ولا أخبره عن المحكمين الآخرين، ونالت طريقتي هذه إعجابه ورضاه.
أما أشد المواقف صعوبة لدى الناصر هي بداية انضمامه إلينا في منتدى خيمة الثقافة الأسبوعي، وهي من الأنشطة المهمة في نادي القصة السعودي، إذ من المعتاد أن يتلو الفعالية تعليقات الحضور وينتقل (المايكروفون) من شخص إلى آخر، وحين وصل إلى الناصر ارتبك وارتجف واهتز (المايكروفون) بين يديه، ولم نسمع صوته جيداً، وأدركت أنه جديد في هذه الخطوة والوقفة، وبالفعل أخبرني بذلك فيما بعد، وعلق على نفسه: (أنا أشوف ما له داعي تحرجون كل واحد، يمكن ما يقدر الكلام قدام الناس!) إلا أنه تفاعل مع الأيام وأصبح يحاور ويعلق ويضيف أشياءً كثيرة، ويحرص أسبوعياً على الحضور والمشاركة، وجميع أمسيات النادي التي عقدها كان هو أول الحضور.
ثم حينما عقدت مكتبة الطائف العامة تحت إدارة الأستاذ القدير والكاتب البارز/ محمد المنصور الشقحاء أسبوعاً للقصة القصيرة، بالتعاون مع لجنة التنشيط السياحي صيف 1421هـ، كان إبراهيم الناصر الحميدان أول المشاركين والمكرمين، وبما أن السكن والإقامة كان في وحدة سكنية – أي ليس في فندق – فقد أعطت المشاركين طقساً عائلياً أخوياً، وكان الناصر - رحمه الله - كالأب بين الجميع في السكن ليلاً ونهاراً، وفي الرحلات السياحية للأماكن القريبة من الطائف، والأحاديث والحوارات في معظم الأوقات كانت قريبة من بعض، وتعرف الحميدان في هذه الرحلة على جيل القصة القصيرة القادم فكان منهم: أحمد القاضي، علي زعله، عبدالله التعزي، خالد خضري، فهد المصبح، ناصر الجاسم وآخرون، وهم الذين خطوا خطوات ثابتة في كتابة القصة القصيرة، وأصدر بعضهم أكثر من مجموعة قصصية.
إلا أن عام 1422هـ/ 2002م كان عام خروجي من نادي القصة السعودي، ثم تكونت على أثر هذا في نادي الرياض الأدبي جماعة السرد التي حرص الناصر - رحمه الله - على وجودها، ومتابعة حراكها ونشاطها مع الأستاذ الصديق/ أحمد الدويحي، ولظروف خاصة لم أنضم إليها وإليهم، إلا أني لم أنقطع بعد ذلك عن أستاذي الحميدان وتواصلت هاتفياً وأحياناً أراه في مناسبات أدبية وثقافية في أماكن مختلفة، وكان يعتب عليّ كثيراً عند صدور مجموعة قصصية لي أو الرواية الأولى التي أصدرتها وفرح بها كثيراً، وقال لي: أنت الآن بدأت خطواتك في طريق طويل وشائك ومرهق جداً، لكن جميل أن يأتي بعد تجربة عميقة في كتابة القصة القصيرة، وغيرها من التراكمات التي أعطتك تجربة حياتية عميقة، لا تتوقف يا خالد الرواية هي الأجمل!
وحضر الأستاذ الناصر احتفال تدشين نادي الرياض الأدبي كتابي: انطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية منتصف عام 1430هـ/ 2009م، وكان مبتهجاً بعدد الحضور والنقاش، وأن يكون لدينا هذا الكم والكيف المتميز في كتابة القصيرة، وقدم لي الدرع بنفسه كتكريم لي، وتقديراً لجهودي في هذا العمل الكبير، وأعاد كلاماً كان يقوله لي دوماً في عدد من المناسبات: (يا خالد ترى ما فيه إلا أنت اللي يتحمل أعباء القصة القصيرة وكتّابها، تحملنا شوي).
رحم الله المبدع والكاتب والصديق الكبير/ إبراهيم الناصر الحميدان، فقد كان طموحاً، شامخاً، مؤسساً للسرد، متجدداً ومجدداً، حتى آخر يوم في حياته، لم يقتنع بالتقليدية والخمول، بل كان يثبت لنا وللقراء أن الإنسان بحاجة دائمة إلى التطور والتغير والتحديث، ولن يدركها إلا من خلال القراءة الدائمة، واخبرني كثيراً عن قراءاته المتنوعة والمتفرعة، وأن المبدع الحقيقي هو الذي لا ينقطع أبداً عن القراءة، لأنه من خلالها يكتشف خطواته وقدراته ومكانته.
أما الجانب الآخر من شخصية الأستاذ/ الحميدان، واقصد بها الحالة العامة لكل أو معظم الأدباء، وهي الكفاف وحصر حياته للقراءة والكتابة، وابتعاده عن أمور الحياة المادية، التي صرفته عن متابعة مسيرة حياته الراغبة للرفاهية والترف، فتأثرت أيامه من هذا العفاف الشريف، على الرغم من وجوده في عمل مؤسسي شامخ: بنك الرياض، وقد خدم فيه فترة من عمره، الذي لم يُقدر مكانته الأدبية والثقافية، ولم يمنحه تقديراً له مبالغ مالية كبيرة تسد حاجته الحياتية، والبنك قادر على ذلك، بل ويزيد البنك مكانته لدى المجتمع حينما يخطو هذه الخطوة الحضارية.
إن الحميدان الذي دُرس وخضعت أعماله للتحليل الأدبي والنقدي، وعلى كل المستويات الأكاديمية والثقافية والأدبية، يستحق مثل ما مضى من دراسات ورسائل وزيادة بعد مماته، لأنه قدم أعمالاً إبداعية رائدة، لها تميزها وخصوصيتها، وفيها طرح جاد فنياً وجمالياً وإبداعياً؛ وما زلت أتذكر ابتهاجه وفرحه بأول رسالة تناولت أعماله القصصية، وقد كتبها القاص والروائي الناقد الأستاذ/ ناصر سالم الجاسم، ثم ما تلاها من رسائل التي كان يتواصل معي ومع الباحث أو الباحثة من أجلها، وهي حالة طبيعية عند المبدع الحقيقي، لأنه شعر بقيمة ما كتبه، وإحساسه بلهفة الدارس أو الدارسة للوصول إلى الحقيقة، وخروجه بنتائج علمية تؤهله لنيل الشهادة من خلال إبداع الحميدان.
رحم الله الأستاذ /إبراهيم الناصر الحميدان، فقد تعلمت منه أجمل خطوة حياتية وأهم تصرف في حياة الكاتب، وهي عدم الاكتراث بأقوال المرجفين أو الكائدين، وأن على الكاتب والمبدع الكتابة فقط وعدم الالتفات إلى الوراء، أو انتظار أي شيء مقابل ما تكتبه!.
الرياض