انبثقت أصابعه من تحت التراب. ورويدا بدأت الأصابع تظهر للعيان. دويّ الطائرات ومقذوفاتها لم يتوقف. وظهرت اليد كاملة لتشير الى أن أحدا يخرج من الارض. سقطت قذيفة بالقرب من اليد الصاعدة فأحرقتها الحرارة.الاجواء مكتظة بادخنة النيران. وحول هذه المقبرة بيوت تحيطها.لكن هذه البيوت قد سقط احد جوانبها من قصف الطائرات. وقذف المدافع البعيدة. لكن رحمة من الله غمرت السماء بسحب تمنع الطائرات من التحليق. إلا ان البرد القارس لم يحجبه شيئا عن جلود الهاربين. وهو نفس الصقيع الذي يخفف حرارة الانفجارات على اليد المتحررة من الأرض. خصوصا وان بروزها الآن وصل الكتف. وواضح انها يد رجل. وأصبحت تحثو التراب عن بقية الجسد. لكنها تتحرك بلا تناسق. شاهد حركتها احد المارة حول المقبرة. فاقترب ليتأكد. وإذا به يذهل بأن إنساناً يخرج من التراب. فأوهم نفسه بأنه احد ضحايا التفجيرات. قد دفن تحت الثرى. فأخذ يصرخ طالبا للمعونة والنجدة:
- «ياجماعة لحقوا عليّ. فيه زلمة اندفن تحت التراب»
في هذه الأثناء كان المدفون قد ازاح التراب عنه بالكامل. ومد يده للعابر ليساعده وينقذه. فنزل الرجل وامسك به واوقفه. وحثى التراب والأغبرة عنه. وعندما استقام واقفا كان قد تجمع نفر من الناس للمساعدة. لكنهم ذهلوا جميعا من منظر هذا الشيخ الدفين. وأمسك بالشخص الذي انقذه وخاطبه:
- ألست بعربي ياهذا؟
نظر إليه في ذهول واستغرب من الشيخ العجيب. توقعوا انه أصيب بلوثة في عقله خصوصا وأن هدير الطائرات لم يتوقف. فأجابه:
- «بلى ياختيار لكن من شان شو عم تسأل»
فأطرق الشيخ وقد اعترى وجهه حزن. ودوى صوت انفجار بالقرب من المقبرة. فتفرقوا هربا وتوارى الشيخ مع احد المارة خلف حائط المقبرة. فسأله الرجل بعد ان خف صوت الانفجارات:
- هل أصبت ياشيخ في احدى التفجيرات؟ أم كنت تدفن أحدا في المقبرة؟
فرفع رأسه باتجاهه ولم يجبه وقد امتلئ وجهه بالذهول والحيرة. وردد في بلاهه:
- انفجرات...قتلى.... إصابات..... عُجمة....
كان ممسكا بيده فتركها وساله:
- من أنت يا شيخ؟ وماذا تفعل هنا؟
فأزاح وجهه اليه في استغراب وقال:
- وهل يُجهل مثلي ثم أنشد:
وإني وإن كنت الأخير في زمانه...... لآت بما لم تستطعه الأوائل
فوجم الرجل ونظر إليه نظرة الحائر وقال له:
- أتعني أنك من خارج سوريا
رغم استبعاده لذلك في قريرة نفسه. لان الشيخ كبير عن سن الجهاد والمجاهدين وفوق ذلك كون أنه أعمى. ولكنه أراد معرفة الشيخ بأدب فأجابه:
- وما سوريا هذه؟... ألسنا في المعرة؟
- نعم.....نعم (قالها في ذهول)
- فمن الذي أيقظني من رقادي العميق؟
-.......
- هل لهذه الأصوات والانفجارات علاقة؟
- بالتأكيد يا مولانا فهذه الحرب الضروس لم تهدأ منذ عامين.
نبهته هذه الكلمة فاعتدل في قامته واستدار تجاه الرجل وانقبضت ملامح وجهه:
- حرب!.... حرب!. أي حرب؟
ثم انقبضت شآبيب وجهه. واعتراه حزن دفين وقال للرجل:
- هل نقض صالح بن مرداس عهده معي؟ وأغدى يقذف البلدة بالمنجنيق؟
نظر الرجل إليه وابتعد قليلا فقد أحس بأن هذا الشيخ مخبول. لكنه تذكر عماه واعتقد بأنه خرف أرذل العمر فقال له:
- مرداس من يا عم!. انها حرب الحُكْم. لكن من انت يا عم؟
- حرب الحكم!!
- نعم انه رئيس البلاد الديكتاتوري (بشار الأسد). لقد ثار الشعب عليه ليقتلعوه. لكنه أمعن في قتل الناس وتشبث بكرسي الحكم. وساندته بلدان خارجية.
- وهل هو من أهل هذه البلاد؟
- ما بك يا عم ألست أنت من هذه البلاد؟. طبعا من أهل هذه البلاد.
- أفلا يخشى من الله ويخاف على صغار وعجزة البلد؟
عندها ندت عن الشاب تنهيدة قوية أخافت الشيخ وقال له:
- أنه لم يأل فينا إلاً ولا ذمة. فصواريخه وقنابله لا تفرق بيننا في الموت والدمار.
وسمعا صوت قذيفة قوي سقطت بالقرب منهما. شعرا بحرارة الانفجار واستنشقا أدخنته. فسحب الشاب الشيخ وهو يقول:
- تعال بسرعة نتوارى يا عم...... ما هو اسمك؟
- أنا أبو العلاء المعر.....
وسقط متشنجاً فحاول الشاب سحبه معه لكنه تشنج هو أيضا من أثر غازات سامة بلا رائحة وسقط ميتا بجواره.