«أحببتها لأنها المرة الأولى التي أكون فيها، وأعي أني أكون» منذ نصها الأول تعلن كميليا بيانها بهدوء متقن كما لو كانت تضع تعليقاً عابراً في الحياة، لا كمن تكتب بياناً عن تقدمها في العمر، وأنها تكون للمرة الأولى في شيكاغو فهي بمعناها الوجودي الذي لم يتحقق من قبل وهي في وطنها، وكميليا البراهيم الفتاة السعودية التي التقت نفسها بعيدا عن هذه الأرض، تعيش اليوم في لندن سيدة في أوائل الثلاثين تكتب لنا عن دار طوى «مانيفيستو التقدم في العمر».
التجربة الكتابية المتقدة التي تقدمها كميليا لم تعجز نصوص الكتاب عن الانفصال في ستة عناوين، لكن الحالة الإبداعية تنتصر على فصول المقسمة لتبدو نصاً مكتملاً ببنية واحدة، والتفاصيل التي تغذي أي نص أدبي تصبح حالة تحدي بالنسبة لكاتبة تخشى التكرار حد الجرأة على اقتصاص النص بأكمله.
الفصل الأول عن الجغرافيا، يضيء ظل المكان في ذات الكاتبة، ورغم أنها لا تغرق في المدن إلا أنها تقيس المسافة بينها وبين المدينة بمقاييس لم يسبق لكثير من الكاتبات العربيات استخدامها، هي لا تقرأ الوطن والمنفى بين السعودية وأمريكا أو بريطانيا حيث تحل لإكمال دراستها العليا، بل تقرأ المدى في تحقق وجودها بين الخليج والقارة العجوز، تقيس كميليا المسافة والارتفاع والسرعة، الوطن والبيت والشارع، بمفهوم واحد فقط هو الوحدة، ينزل كعنوان ثاني في الكتاب:
«أحببت شيكاغو لأنها تقول لامرأة مثلي، بكل بساطة وطيبة خاطر، إن الوحدة خيار محتمل، وإن المدينة لا تقسو على الوحيدات كما تفعل الرياض».
كميليا التي تحب أوربا العجوزة لأسباب لا يعرفها السياح ولا النساء المسافرات نحو سماء زرقاء وأمطار لا تجف، «أحبها لأنها لا تثقل أكتافي برجال لا يستحقون، أو تصور لي ألوانا مشرقة لحياتي» تعلن الكاتبة الفرق بين بلد لا يسلبها حريتها فقط، بل يعجزها عن أن توجد، وبلد آخر لا يدعي خلاصها ! منذ السطور الأولى والكاتبة تلملم عدساتها من السرير والشارع والحمام والمطبخ وصالات السينما وحتى من دعايات جوجل، عدسات الكاتبة التي لا تدرك التفاصيل بحواسها كما تشبع القارئ في الأدب العربي، فلا الرائحة ولا الضوء واللون ولا الصوت يشكل خيوطا عريضة في النص، بل ربما تتلاشى تماما من معظم الكتاب، ما يفتح السؤال عن طبيعة قراءات الكاتبة ونوعيتها، عن المصدر الذي تتغذى منه هذه الفرادة في التقاط التفاصيل.
سؤال آخر يمكن أن يتعثر فيه الناقد مع مانيفيستو التقدم في العمر، كيف يمكن للمعرفة الناضجة بالعلوم التي تمتلكها الكاتبة، أن تقدم نصا إبداعيا شفافا كنصوص البراهيم، بلغة نافذة للفهم كسكربت سينمائي أو عمل تلفزيوني لا يحمل الكثير من الأسرار للتأويل، لكنه يلامس أدق الأوتار في النفس البشرية.
الكاتبة التي تدرك المعنى في أن يتحقق وجودها خارج وطنها، لا تقيس الحرية بالكلاشيهات المعتادة، لا بالنسبة للنساء، ولا بالعموم بالنسبة للعربي الذي يعيش في أوربا، هي تقلق من «ممارسات النساء في استلام أثمان ملابسهن الداخلية وأوراقهن الرسمية من رجل ونسبة المقايضة إلى الله» ومن أن لا تحدد موقفها من الأمومة ومن «أن تقف اللغة بين درويش والرجل القادم، فلا يعرف تماما من أنا».
تكتب البراهيم عن مخاوفها وعن كوابيسها الليلية في فصل الفزع، حالة من القلق تكتبها كمن يجترح جماليات الوجع وهو يدرك تماما أن جمالا أكثر يعني وجعا أشد، لكنها تذهب في مواجهة الفزع، تتحدى الليالي بقصيدة وحبر وقدرة فائقة على الاستسلام للخوف «هي لا تزال ترتقب قدرا أدنى من المتعة في كوابيسها يقتص من فزع الاستيقاظ الموحش في وقت كهذا! كأن تجلس وقصيدة على مقاعد متجاورة يشاهدان بطمأنينة أحداث الكابوس الأخير، أو أن تنبت براعم موسيقى تصويرية في حقل أحلامها، فيخجل منها النوم ويختار شكلا لائقا بالبقاء! «
ربما يفقد القارئ قدرته على تمييز الضمائر النحوية في النصوص، لا لأن بوصلة اللغة غير ثابتة الاتجاه، لكن لأن الأنا الكاتبة تخاطب الأنا القارئة لا بوصفها أنثى مثلها، بل كإنسان لا فرصة لتمييز جندره في هذه اللحظة الإبداعية «أن تختارْ وحشة طريق الشك الطويل، لأنك تفتقد يدا ثالثة تمسح عن جسدك تعب اليقين!»، وفي نص آخر من فصل الأرق «تدرب قلبك على عذابات الانتظار الصغيرة لعل القلق يجد صديقا سواك»، الأرق الذي جاء رابع الفصول، وتريد كميليا أن يغادرها لتنام «بطمأنينة امرأة توشك أن تغادر مطعما برفقة رجل، ولا يعنيها أمر الحساب في شيء».
رغم أن الكتاب هو الإصدار الأول للكاتبة التي اختارت النشر متأخرا رغم نضج تجربتها، بالمقارنة مع تجارب كتابية أخرى لم تكتمل شروطها صدرت في عمر مبكر لمجموعة من الشباب، إلا أنه كتاب يحمل دليله الخاص وخطه المتفرد الذي يقدم عملا ناضجا يستوفي كامل الشروط.
هو عمل يتجاوز 150 صفحة من القطع المتوسط، يتسم بدرجة إتقان تتفوق على بقية النصوص الشبابية نسبيا، يتضح ذلك في معظم نصوص الكتاب، ويتجلى بشكل أكبر في الفصل الخامس المعنون بالأسئلة، ليس لأن الفصل محشو بالاستفهامات الوجودية الكبرى التي يميل لتقديمها البعض كتأشيرة معرفة وبرستيج ثقافي، بل لإدراكها هذه المعاني الوجودية في أدق هوامشها، حد الكتابة عن خسارة رباط حمالة صدر في حادثة غسيل مشتركة «لا أعرف كيف تلقي امرأة بحمالة صدر في غسالة ملابس، فلا تكترث لكونها هشة ووحيدة، باحتمالات تشوهها اللانهائية.. باحتمال ألا تعود من تلك العتمة الرطبة كما كانت..»
وعن الوقت والحكايات، الفصلان السادس والسابع، تبدو الخسائر مثلجة الوجع، كجماليات تزداد تجريداً على حد تعبير درويش «كلما جف ماء القلب، تزداد الجماليات تجريدا»، تتأمل الكاتبة فيها خساراتها كموبيليات قديمة وأنيقة متفاوتة الثمن «وقلبها لا يحكي، ولا يبكي، ولا يمارس حياة الفتيات التي لا تعرف شكلها»، «وأعرف أن الندم يطرق نافذتي كل مساء، وأني لا أكترث له. أريد حياة صالحة لوجع القلب، ولا أطلب أكثر!».
هي الأنثى التي تدرك معنى الوجود، وتفهم الحرية شرطا له لا مجرد سبيل لحياة أفضل، هي التي تكتب لنفسها عن نفسها مانيفيستو وجودها وهو يتقدم في العمر «وتنتبذين أقصى أركان الحلول، فلا يعلق وجودكِ في منتصف قرار رجل أو تردد وطن».
lamia.swm@gmail.com
الرياض