Culture Magazine Thursday  04/04/2013 G Issue 401
فضاءات
الخميس 23 ,جمادى الاولى 1434   العدد  401
 
تلقي الجنون «3»
د. أحمد بن علي آل مريع

 

ج _ اللغة تصنف الجنون:

- تعطي اللغة مستعملها انطباعًا: أن عالم الجنون عالمٌ خفيٌّ ومغاير، يظهر ذلك من مركزية لفظة (جنون- مجنون) فيه، وهي ذات دلالة على الستر والتغطية والاحتجاب. إن الاشتقاق من المادة نفسها (ج ن ن) تقتضي الخفاء، ومن ثَمَّ الانفصال والاختلاف؛ لأنها ضد الظاهر والمستأنس المألوف! واللغة تنبه مستخدميها إلى تلك المفارقة المهمة! لذلك تستعمل اللغة هذه المادة في الدلالة على ما هو منفصل بائن؛ يقال: جُنَّةٌ، لما يستتر به، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «الصوم جُنَّةٌ»، والمِجَنُّ: الترس يتقى به في الحرب، فكأنه يفصل بين الإنسان وبين ما يكره. ويقال: الأجنان أي: القبور، والمفرد منه: جَنَن، والمجنون: المقبور، ومنه قول الأعرابية: «لله درّكَ من مجنونٍ في جَنَنٍ». والمقابر عالم آخر غير العالم الذي يأوي إليه الأحياء ولو اندرج فيه أو اتصل به، كما أن المقبور ناء عن منازل الأحياء ولو كان أقرب ما يكون جدثًا منهم.

- وفي المقابل فإن المسرد الآخر الموازي لمسرد الجنون، تكون فيه لفظة الحمق لفظة مركزية، نجدها لا تشير للخفاء والغرابة والانقطاع، بقدر ما تشير لمسألة البوار والكساد. فعقل الأحمق موجود ولكنه بائر وكاسد، لا يجد رواجًا عند صاحبه، ولا يروج لديه به أسباب ظفر أو سلامة، مثل ما تقول العرب للسوق إذا كسدت: «حمقت السوق»، فإنّ هذا الوصف نفي لجودة الربح ولرواج البيع فيها؛ وليس نفيًا لوجود السوق ولا لجودة البضاعة. وقد عبر أبو حامد الغزالي عن هذه المفارقة الدَّقيقة بين الجنون والحمق؛ فقال:

- «أمّا الحمق فهو: فساد أول الرؤية فيما يؤدي إلى الغاية المطلوبة، حتى ينهج غير السبيل الموصل...

أما الجنون فهو: فساد التّخيّل في انتقاء ما ينبغي أن يؤثر حتى يتّجه إلى إيثار غير المؤثر. فالفاسد من الجنون غرضه، ومن الأحمق سلوكه؛ إذ غرض الأحمق كغرض العاقل ولا يعرف في أول الأمر إلا بالسلوك إلى تحصيل الغرض. والجنون هو فساد الغرض؛ ولذلك يُعرف في أول الأمر...».

- فـ»الأحمق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه الطريق فاسد؛ فلا تكون له رويّة صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض. أما المجنون فإنه يَختار ما لا ينبغي أن يُختار؛ فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسدًا».

ومعنى ذلك كما يشرحه ابن الجوزي:

«أنّ الحمق والتغفيل هو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب، مع صحة المقصود. بخلاف الجنون فإنه عبارة عن خلل في الوسيلة والمقصود جميعًا. فمن ذلك: أن طائرًا طار من أمير، فأمر أنْ يغلق باب المدينة! فمقصود هذا الرجل حفظ الطائر».

إن الأحمق لم يكن في بينونة عن نظام العقل، ولكنه عجز عن العمل بمنهجه الواضح؛ فهو رهن خطأ بالغ قاد إليه جهله وكساد عقله عنده؛ فهو يحتاج إلى موجّهٍ يوجهه، ومرشدٍ يذكّره بالوسائل المناسبة للوصول إلى مقصده الصحيح؛ ولذلك وصف الحمق بـ»الجهل» في الأدبيات العربية؛ فالحمق إذن «وجود داخل النظام».

وهذا بخلاف «الجنون» الذي هو وجودٌ «خارج النظام»، لأنه- كما أسلفنا- محجوب عنه ومنبت. ومن ثمَّ كان من أسماء الجنون «معنون»، ويستخدم كثيرًا كالإتباع له، فيقال: «مجنون معنون»، والمعنون: كلّ محبوس، فهو: محبوس وممنوع من الاتصال والتفاعل مع من وما حوله، ومن الجذر نفسه العنين وهو: العاجز عن الاتصال الجنسي، فكأنّ اللغة تؤكد على صفة الانقطاع في المجنون.

ولذلك يقال للرجل إذا برئ من حماقة «أقبلَ»، كأنما كان مستدبرًا الوجهة الصحيحة. أما المجنون إذا عقل فيقال له: «أَفْرَق» المجنون، ويقال: ثاب إليه عقله، وراجعه عقله، كأن المجنون كان في عدوةٍ قصيّةٍ وفرق إلى أخرى، أو في سبيل وانتقل إلى غيره، أو أن عقله كان عازبًا عنه أو غائبًا ثم رجع إليه.

- ومن دأبِ العرب قديمًا وحديثًا تعزيم المجنون ببعض ما يحترمون ويجلُّون، وما يُعزّمُ به يحتلّ -بالضرورة- مكانة عظيمة في الثقافة المعتمَدة لأنه ينتج قيمها أو يرسّخها؛ ومن ثَمَّ فهو العلاج الأنجع للجنون؛ لأنه يردّه إلى حياض ما يعتقدون من مُثُلٍ، أو يجلون من رموز، ومن ثمَّ فهو الأقدر على أن يُرجعه أو يُقبِل به إلى الجادّة والصواب/ عالم العقل من جديد، وذلك إشارة إلى ما استقرّ في ذهنيتهم من كون الجنون خروجًا من العالم (المأنوس= الإنس) إلى عالم (غريب عجيب خفي= الجنّ)، وأنه تمردٌ على العقل لا يعترف بقيمه ولا أسبابه ولا مقاصده، بل هو عالم خاص بأسبابه ومقاصده وأوهامه.. ولذلك قرأنا في كتب التراث: «لَوْ قُرِئَ هَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى مَجْنُونٍ لَبَرَأ»، و» إسناد لو قرئ على مجنون لبرئ»، و» هذا [الإسناد] سعوط السَّبَلْيا، الذي إذا سُعِط به المجنون برِئ»، وروى أبو الفرج الأصفهاني عن إبراهيم بن سعد أنه قال: «إني لأروي لكثير ثلاثين قصيدة لو رقي بها مجنون لأفاق». وقد وُصف كثير «بأنه أشعر أهل الإسلام»، وقيل عنه: «لم يُدرك أحدٌ في مدح الملوك ما أدرك كثير»، و»ما قصّد القصيد، ولا نعت الملوك مثل كثير». وما دام شعره بهذه المنزلة، فهو جديرٌ لمؤسسيتَّه بأن يعيد المجانين إلى حياض العقل (= المنهج/ النسق) الثقافي.

وهم بذلك يشيرون إلى «المقدّم» و»المحترم» بصفته قادرًا بفضل قيمته وما يحمله من برهان الحقيقة على فرض سلطته ونظامه على المجنون عندما يجتمعان. وهذا ظاهر من لفظة «العزائم» حين يطلقونها على «الرُّقَى التي يعزم بها على الجن والأرواح»، فالعزيمة فيها معنى الصرامة والجلد، و»عزم» عليه بكذا إذا حمله عليه أو أقسم أن يفعله.

- أما الأحمق فلم يكونوا يعزمون عليه بشيء لأنه لم ينأ عن عالم العقل؛ حتى يروموا إرجاعه إليه، بل هو «داخل نظام العقل»، فلا يحتاج إلى عزيمة بما يُعظِّمُون، ولكنه يحتاج إلى غير ذلك؛ يحتاج إلى أن يحسن تقدير ما لديه من نعمة العقل، ويتتبَّع نظم العلاقات، ويتعلَّم كيف يسبب الأسباب، ويفترض النتائج لمقدماته التي أسلفها وفق ما يجري عليه المنطق والنظام، فمقاصد الأحمق وأهدافه على الإجمال صحيحة لا يشوبها ما يشوب مقاصد الجنون، ولكن الأحمق برغم انتمائه إلى نظام العقل، وبرغم معاشرته الطويلة لأهله، وبرغم انضوائه الطويل تحت مظلته، كاسد العقل بليد الطبع ما يزال يضل في اختيار الوسائل المناسبة للوصول إلى مقاصده؛ فهو مثلاً يريد أن يغنم فيغرم، أو يصلح فيفسد، أو يفقد الشيء فيطلبه بأكثر مما يستحق من ثمن، فهو كـ»البقلة الحمقاء»، لأنها كما يقال: تنبت في مجاري السيل، فكأنها تريد الحياة السهلة والنضرة فتنبت في مجاري الماء فيقتلعها، ويكون حتفها حيث أملت البقاء والنماء. وكلّ ما تقدم من حيث الغاية والمقصد شريف ومحترم؛ فالغنم والإصلاح والحياة النضرة اللينة لا ينكرها العقل، ولكنها بالنظر إلى الوسائل التي استخدمت حمق وضلالة، لأنها لا توصل إلى المراد؛ وإن أوصلت للمراد فمع رزية تفوت حلاوة الظفر، وما يُرتجى من النفع. ولذلك عاب العرب الحمق وعظموه بما لم يعظم الجنون- على حدّ تعبير المناوي، وتواترت مروياتهم على وصفه بأنه الدَّاء الدّوي، الذي لا دواء له، حتى سرى مسرى القانون الثقافي أنّ:

لكلِّ داء دواء يستطبُّ به

إلا الحماقة أعيت من يداويها

وتداولوا في مروياتهم أن عيسى عليه السلام اعتذر عن مداواة الحمقى، في حين أنه كان يبرئ من الجنون بإذن الله. ومن ثَمَّ كان الوصف بالحمق أكبر وأشنع من الوصف بالجنون! وهنا نستعيد المروية التالية:

«قال معلّم موسى الهادي له؛ في معرض التقريع له: يا أحمق! فهشم أنفه، فسأله أبوه المهدي عن السبب؛ فقال: قال لي: يا أحمق! ولو قال لي: يا مجنون لاحتملته».

(يتبع 4)

رئيس نادي أبها الأدبي أبها

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة