نظرية الانعكاس هي الاسم الأكثر بروزاً في أطروحات الاتجاه الماركسي النظرية تجاه الأدب، وهي الأكثر تخصيصاً للمنظور الأدبي من الوجهة الماركسية، وذلك بسبب تبلورها المبكر في هذه الوجهة، ودلالتها الأكثر قرباً من المقولات الماركسية الطوباوية والأكثر تجذراً في فلسفتها المادية الجدلية، بالإضافة إلى اتساع مدارها التداولي ضمن المنتمين إلى هذا التيار، خصوصاً في حقبة الاتحاد السوفيتي و»الحرب الباردة». وقد بلغت نظرية الانعكاس تكاملها لدى الفيلسوف والناقد المجري جورج لوكاش وظلت محوراً نشأت بسبب الاختلاف عنه قليلاً أو كثيراً اتجاهات نظرية ماركسية أخرى. وهي إلى ذلك مرتكز نظري أفاد منه المنظور الواقعي باتجاهاته الأدبية النقدية والوجودية حتى وهو يجافي الإيديولوجيا الاشتراكية والفلسفة المادية الجدلية.
والانعكاس هنا تسمية للنظرية على سبيل الاستعارة من الصفة التي توجد بها الأشياء منعكسة في المرآة. وهي استعارة يتجاوب طرفاها في علاقة التشابه، فكأن النظرية هنا تشبِّه الأدب بالمرآة في انعكاس الواقع عليه مثلما تنعكس الأشياء في المرآة. وليست الدلالة بالمرآة على وصف العلاقة بين المعرفة والواقع، أو الفن والواقع، جديدة، فقد عرفناها لدى أفلاطون وهو فيلسوف مثالي وليس واقعياً كما هو حال لوكاش، أي أن الوعي لديه سابق على الوجود، وذلك حين فسر الفن بأنه مرآة تعكس ظاهر العالم الحسي، وتحاكي المظاهر المادية لا الصور العقلية، وكان هذا أحد الأسباب في تدني قيمة الشعر لديه. لكن دلالة المرآة التي تتضمنها صفة «المحاكاة» أو «التقليد» أو «التخييل» أو «التصوير» وما أشبهها عند عديد النقاد والوجهات النظرية بعد أفلاطون لم تأخذ -غالباً- معنى سلبياً فقد كانت تعبر عن الصدق في التعبير، أو في الشهادة على الواقع، واكتشافه ومعرفته، أو القدرة البارعة في نقل صور الأشياء وإبداع رسومها... إلخ مع التنبُّه دوماً إلى أن العقل غير المرآة، والفن غير الانعكاس الحقيقي للأشياء في المرآة، فهو تشبيه للتوضيح لا للتحقيق، ولم يكن المطلوب من الفنان –والأمر كذلك- مطابقة الواقع بقدر تمثيله ولا الوقوف عند ما هو كائن بل البصر بما يمكن أن يكون. ومن هنا بدا القول بالانعكاس مثل القول بغيره من الصفات لدى بعض النقاد حتى من أصحاب الوجهة الماركسية، مضلِّلاً؛ فإن كان الفن مرآة –فيما يقول بيير ماشري تلميذ البنيوي الماركسي ألتوسير- فلابد أنها مرآة وُضِعَت بزاوية معينة تجاه الواقع أو هي مرآة مكسورة تعرض صورها في شكل متجزِّئ، بحيث تكون معبِّرة فيما لا تعكسه بقدر ما هي معبرة فيما تعكسه.
لكن الانعكاس، في المادية الجدلية، ليس تفسيراً للفن فقط، مستقلاً عن مجمل نظرية المعرفة فيها، التي يترتب الوعي فيها على الوجود المادي. والقاعدة المحورية في منظور المادية الجدلية للمعرفة هي قولة ماركس: «ليس وعي البشر هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم». وقد أخذ التمييز بين الوعي والوجود الاجتماعي المادي هنا قسمةً على جهتين إحداهما «بناء سُفْلي» هو مجموع علاقات المجتمع الاقتصادية، والآخر «فوقي» وهو ما ينتمي إلى الوعي والفكر ويتضمن السياسة والفن والدساتير والعلم وكل ما نتج عن الوعي. والقصد من ذلك بيان تبعية الوعي لبناء العلاقات الاجتماعية الاقتصادية، واستقلالية هذا الأخير عن الوعي. ومن هنا جاءت مقولة الانعكاس فالوعي أو العقل ما هو –فيما قال لينين- إلا «نسخة، انعكاس، صورة للمادة». لكن الفن وغيره من أشكال الوعي تملك –على رغم تلك التبعية- استقلالاً نسبياً يتيح لها القدرة على العودة بالتأثير على الواقع الذي تنتج عنه مقترحة التغيير له أو داعية إلى تثبيته، وهو التأثير الذي يصنع لأشكال الوعي قيمتها وجدواها التي لا تنفصل عن قيمة المعرفة للواقع والتغيير له.
وقد تبنَّى لوكاش مقولة لينين عن الانعكاس وأخذ يستثمر العديد من المصطلحات والمفاهيم لتعميقها، وأولها مفهوم «الوحدة الشاملة». فما يعكسه الفن ليس الانطباعات الأولية للحس، وليس مظاهر الواقع، أو نثارة أشيائه وأشخاصه، وإنما عمقه وعلاقاته التي تصور وحدته الشاملة. وهذا يحيلنا على النظرية المعرفية لفلسفة الانعكاس في المادية الجدلية، تلك التي رأى لوكاش أن الانعكاس بمعناه الدقيق والعميق لا يمكن تصوره إلا من خلالها. فالعالم لديها ليس أشياء وظواهر متفرقة وإنما كل موحَّد، وهو ليس وجوداً ساكناً وإنما هو في تحول وتطور دائمين، بسبب اشتمال المادة على تناقض داخلي يتم حله بتحولها جدلياً إلى كيفية جديدة تحمل تناقضاً جديداً. لا بد –إذن- أن يكشف الانعكاس عن نمط التناقضات الذي يكمن من وراء نظام اجتماعي معين، وهذا الكشف يستلزم المجاوزة للظواهر الفردية المنعزلة إلى العملية المتكاملة للحياة التي يبرز فيها الإنسان والمجتمع في كلِّيتهما الموضوعية المتحركة.
ويأتي مفهوم «النموذج» لدى لوكاش واحداً من أبرز متكآته في تطوير دلالة الانعكاس. وقد عُرِف النموذج أكثر ما عرف في الدراسات النقدية الأدبية بدلالته على الشخصيات التي تغدو رمزاً بصفة أو بأخرى مثل سيزيف ودون كيشوت وعطيل وهاملت وعنترة والسندباد وأيوب والشيطان والبخيل والشخص الآثم... إلخ فيتداوله الأدباء بطرق مختلفة ويخرج لينتقل من أدب إلى أدب في الإطار العالمي. ولدى لوكاش فإن «التصوير الحي للإنسان الكلي ليس ممكناً إلا إذا حدَّد الكاتب من خلق النماذج هدفاً له». والواقعيون الكبار –بحسب وصفه- «عندما ينقِّبون في الواقع بوصفهم كتَّاباً لاكتشاف النموذج الحقيقي، فإنهم يقدِّمون في الوقت نفسه مرآة كاشفة للمجتمع الحديث يمكن لنا اليوم أن نتتبع فيها درب الآلام المتعلق بكلِّية الإنسان». أما نموذجية هذا النموذج فتنتج –من وجهة لوكاش- عن التقاء الخاص والعام فيه، ذلك أن الانقسام للإنسان الكلي إلى إنسان حياة عامة وإنسان خاص هو –فيما يرى- تشويه وتمثيل بالكائن الإنساني وهو من الأوهام الملازمة للمجتمع الرأسمالي. ويرى لوكاش أن النموذج ليس شخصية متوسطة كما يذهب إلى ذلك المذهب الطبيعي وليست فذة تسقط في العدم نتيجة استثنائيتها، وإنما هي حسب الطباع والظرف، إنه لا يصير نموذجاً إلا لأن كل العناصر المحدَّدَة الجوهرية إنسانياً واجتماعياً في مرحلة تاريخية معينة تتقارب وتتلاقى فيه. وقد غدا لديه نموذج الأم الذي مثَّلت عليه شخصية «نيلونا» في رواية مكسيم جوركي «الأم» أحد أبرز الأمثلة لذلك. إنها امرأة عاملة جاهلة ذات أصل ريفي، يموت زوجها مبكراً ويندمج ابنها في الحركة الثورية فتتيح لها هذه الظروف التعاطف العفوي مع الثورة بغريزتها. فنموذجيتها من وجهة تطور الثورة، إذ سلك طريقها فيما بعد ملايين العمال الفلاحين. وهي نموذجية تشف –وفق صفات النموذج عند لوكاش- عن تجسيد العموم في الخصوص، وتلاقي الكل والجزء، والجماعة والفرد، والموضوع والذات، والجوهر والمظهر. ويفضي الانعكاس -فيما تجسِّد الرواية- إلى وحدة تزيد على مجرد مجموع الأجزاء وإلى إعادة لتنظيم ما يبدو في الحياة اليومية ركاماً من الأشياء المتناثرة والمصادفات والفوضى وذلك بترتيبها على ضرورتها الموضوعية، وانتقاء أكثر التجارب تمثيلاً لغيرها.
لكن الانعكاس، هكذا، يبقى أسير رؤية مذهبية موجّهة، فهو ليس تفسيراً محايداً للأدب، والماركسية –بالأساس- لا تتصور معرفة محايدة، فاحتياجات الإنسان هي التي تحدِّد الحقيقة، ولماركس مقولة مركزية في الاتجاه كله، هي قوله: «ظلت الفلسفة تفسِّر العالم بطرق مختلفة ولكن المهم تغييره». ولقد كان من دأب لوكاش الانتقاص من كل المذاهب والمدارس الأدبية في سبيل الإعلاء للواقعية الاشتراكية واختصاصها بالإثراء للمعنى الأدبي والإنساني. فأدباء الحداثة –لديه- ليسوا أصلاء، وما يعكسه أمثال جويس وكافكا وبيكيت وفوكنر وفرجينيا وولف في أعمالهم، إنما هو نظرة ساكنة للتاريخ، لأنهم لا يدركون الوجود الإنساني من حيث هو جزء من مناخ تاريخي متحرك، وقد شغلوا أنفسهم بالبراعة الشكلية التي تتصل باهتمامهم الضيِّق بالانطباعات الذاتية، والنزعة الفردية المفرطة. ولم يسلم الطبيعيون مثل إميل زولا من نقد لوكاش فهم يعكسون الواقع خلافاً للحداثيين، ولكنهم يعكسون ظاهره لا جوهره، وسطحه لا أعماقه، ولذلك فإنهم يقدِّمون ما يشبه التصوير الفوتوغرافي للواقع. والنتيجة هي أن أدباء الحداثة وأدباء الواقعية الطبيعية يشوِّهون الواقع ويفقرون الأدب.
هذه المذهبية في نظرية الانعكاس لدى لوكاش، لا تنفك عن مبدأ الالتزام الذي كان أحد معرِّفات لوكاش الأساسية للانعكاس من حيث هو علامة على الفن الواقعي الاشتراكي الذي لا قيمة –عنده- لغيره. والالتزام هنا موقف إيجابي أو سلبي من الوقائع في زمن الكاتب، فالأدب معرفة بالواقع ولا معرفة –فيما ترى المادية الجدلية- دونما انحياز. وهذا الانحياز يجب أن يتمثَّل منظور التناقض والصراع الطبقي من جهة الطبقة العاملة ومصلحتها، وبالترامي إلى اجتثاث العالم القديم، وهو ما يجعل موقف الأديب من الوجهة الواقعية الاشتراكية مجسَّداً في موقف البطل الإيجابي المتفائل لأن التاريخ يتقدم ضرورةً –بحسب التاريخية الماركسية- إلى الحل الاشتراكي. والإيجابية والتفاؤل هما نقطة اختلاف جوهرية عن «الواقعية النقدية» لدى بلزاك وأمثاله التي تحفل بالسلبية والتشاؤم على الرغم من مديح لوكاش لها، مثلما هي نقطة اختلاف أكثر جوهرية مع نزعة الحداثة والواقعية الطبيعية، بحيث يمكن تقويم رؤية لوكاش إلى الأدباء دوماً من منظور الالتزام بالمعنى المذهبي.
ولا تنفك نظرية الانعكاس -ما دام الأمر كذلك- عن الإيديولوجيا من حيث هي –استناداً على كارل مانهايم- خطاب فئوي في مأتاه ويحمل نظرة أو مصلحة جزئية أو قطاعية ويزعم -مع ذلك- الشمول والكلية، وذلك بتمويه صفته بادعاء يقين موضوعي أو عقدي م ن العلم أو من «حتمية التاريخ» أو من توسل قيم كبرى ومتعالية. ولذلك تصير الإيديولوجيا بنية مغلقة، تحمل كل الإجابات، ولا تقبل الانتقاص منها أو الزيادة عليها، ولا المساءلة لها واختبارها. لكن النظر إلى حقيقة الانعكاس من حيث اشتماله على نوع من التفكير المعارض للأمر الواقع والطامح إلى تغييره وتمثُّل المستقبل واستحضاره بكيفية مستمرة في نوع من الحلم الاجتماعي هو ما يصله بصفته هذه بدلالة «اليوتوبيا» –أي الطوبى- التي يفرقها مانهايم عن الإيديولوجيا بحيث تخصِّص لديه إيديولوجيا الفئات الاجتماعية المعارضة أو المضطَهَدة والجماعات السياسية الصاعدة، وذلك في مقابل دلالة الإيديولوجيا على ما يهدف من التفكير إلى استمرار الحاضر ونفي بذور التغيير الموجودة فيه، وهو دائماً فكر الطبقة السائدة والحاكمة للواقع.
كما يفرق ما نهايم اليوتوبيا الاشتراكية-الشيوعية عن اليوتوبيا الليبرالية بأن الأولى تضع المستقبل في نقطة زمنية محددة وهي الفترة التي تنهار فيها الحضارة الرأسمالية، وذلك بخلاف الليبرالية التي لا تحديد زمنياً ليوتيبياها في المستقبل. ويضيف إلى ذلك فارقاً آخر ينبع من المثل الأعلى فيهما، فالمثل الأعلى في العقلية الاشتراكية هو مادة جديدة تكاد تشبه كائناً حياً له ظروف وجود محدَّدة يمكن أن تصبح معرفتها هدفاً للبحث العلمي، وهو في العقلية الليبرالية أحلام وشهوات وأوامر خيالية أي أنه من طبيعة تجريدية شكلية إنه مجرد رأي. فليس الانعكاس مجرد تصوير للواقع أو تعبير عنه، بل هو تصوير من زاوية معينة للصراع ووفق مبدأ الالتزام، وليس الالتزام بأي مبدأ أودين أو ثقافة بل بالواقعية الاشتراكية.
وقد ترتَّب على ذلك أن الانعكاس اهتمام بالمضمون لا بالشكل، صحيح أن لوكاش يؤكد على وحدة الشكل والمضمون وأن المضمون يقتضي شكله المناسب، لكن هذه الوحدة تتمزق ما دام الالتزام يحيل على فكرة سابقة على شكلها ومؤدَّى مقدَّم على الصياغة. والأمر لا ينفصل عن تضمُّن نظرية الانعكاس التأكيد على المؤلِّف في إرادته وقصده وحضوره الواعي، وهو تأكيد يضاد الأطروحات النظرية تجاه الأدب في النقد الجديد وما تلاه، تلك التي بلغت ذروتها في مقولة «موت المؤلف» لدى البنيوية. ولم يكن غريباً من هذا المنظور أن تكون التفسيرات النقدية التي تحيل النصوص على ما يجاوز وعي المؤلف بالموضوع الذي يلتزم به وإرادته تجاهه، موضع هجوم متفاوت من وجهة الانعكاس الملتزم، سواء اتجهت إلى ما يأتي من وجهة اللاوعي الفردي والاجتماعي أو إلى البيئة والمحيط التاريخي، أو إلى الصياغة واللغة. وقد وجَّه لوكاش انتقاصاً لهيبوليت تين وغيره –مثلاً- ممن رأوا تفسير الأدب عبر علاقته بمحيطه الزماني والمكاني، فتفسيرهم من وجهة لوكاش ناقص لأنه لا يلتفت إلى حركة الواقع الاجتماعي ولا إلى ما يجسِّده الكتَّاب من قوى تاريخية في فنهم. ولم تكن السيريالية أو تيار الوعي –مثلاً من جهة أخرى- في إحالتهما على ما يجاوز الوعي أحسن حالاً من تين في انتقاص لوكاش لهما.
وللحديث بقية إن شاء الله.
الرياض