هل كل حواء هي شهر زاد؟
قد يَرَى البعْض أن الخاصية «الحكويّة» هي خاصية أصلية عند حواء، ووفق هذا الرأي «فإن كل حواء هي بالضرورة شهر زاد».
وقد يَرَى البعْض الآخر أن «الخاصية الحكوية» ليست خاصية أصلية عند حواء إنما خاصية يرتبط وجودها بظرف الاقتضاء وقيمته، ووفق هذا الرأي «فإن ليس كل حواء هي بالضرورة شهرزاد».
وقد يبرهن أصحاب ربط الخاصية الحكوية بالاقتضاء بتفوق الرَّجل في أدب الرِّواية عن المرأة.
لكن السُّؤال الذي يقف بين الرأيين السابقين ما «دلالة رمزية شهرزاد»؟.
هل شهرزاد هي رمز «لفعل الحكاية» أم هي رمز «لصناعة فعل حكاية الحكاية»؟.
قد يقول البعْض وما الفرق بين «فعل الحكاية» و»صناعة فعل حكاية الحكاية»؟.
والفرق ها هنا يتعلّق «بالحرفية» «احتراف فعل الحكاية»؛ أيّ تحويل «الفعل وردة الفعل» إلى «دراما» صناعة فضاء علائقي يتمحور حول الفعل وردة الفعل.
وهنا يُمكن إعادة سؤال الافتتاح بطريقة مختلفة «هل خاصية احتراف فعل الحكاية خاصية أصلية عند حواء»؟.
ليس صحيحًا أن الكفاءة هي التي تخلق القدرة، ولا يمكن أن تتحقق القدرة إلا بالكفاءة، والعبارة لا تنطوي على تناقض؛ إنما تعني أن «وجود ذات القدرة» هو وجود حتمي والحتمية كأصل لا تستطيع الكفاءة أن تتحكم في إقرار وجودها أو عدمها، لكن الكفاءة تُعين على «إظهارها»، ولذلك فإنَّ الغياب لا يعادل العدم كما أن الإظهار لا يعادل حتمية الوجود.
ولذلك يُمكنني القول حسبما أعتقد أن «كل حواء تملك القدرة على الحكاية» ولكن «ليس كل حواء تملك الكفاءة في تحقيق القدرة على الحكاية».
تذكر لنا الكتب التي أرهصت لنشأة شهرزاد أنَّها قرأت الكثير من الكتب وحفظت الكثير من القصص وأنها لم تذهب إلى شهريار إلا بعد أن صقلت قدرتها على صناعة الحكاية بكفاءة المعرفة، مما يعني أنّها وظّفت صناعة الحكاية كسلاح لمقاومة عنف شهريار وظلمه وعلاج لعقده وحماية لها في ذات الوقت.
وهكذا أصبحت شهر زاد هي «رمز لصناعة حكاية الحكاية» وليست رمزًا «لحواء الحكواتية».
ولذلك لقبت الدكتورة لمياء باعشن «بشهرزاد الحجاز «؛ لأنّها حققت «رمزية صناعة حكاية الحكاية».
فالدكتورة لمياء باعشن ليست «جامعة تراث» إنما «صاحبة مشروع إحياء التراث».
والمتأمَّل لطريقة الدكتورة لمياء باعشن في إحياء التراث الحجازي سيجد أنّها تعتمد على «إستراتيجيَّة الحكاية» في إحياء التراث الحجازي سواء المقروء أو المسموع.
لا شكَّ أن هناك علاقة خاصة بين التراث وفعل الحكي أقل وصف لها أنّها «علاقة وجود لوجود».
فالحكاية ليست آلية تعريف بالتراث إنما أيضًا القلب النابض للتراث الذي يحافظ على حياة التراث واستمرار انتقاله عبر أزمنة الأجيال.
ولا أقول أن الدكتورة لمياء أدركت هذه الحقيقة إنما أقول: إن الدكتورة لمياء من خلال مشروعها إحياء التراث الحجازي أثبتت بالبرهان أصل هذه الحقيقة وقيمتها.
كما أنّها أدركت خاصية تشترط بصناعة الحكاية وهي «الخاصية السحرية» وهذه الخاصية هي التي جعلت الدكتورة لمياء «تنوّع حكاية التراث الحجازي» من المقروء إلى المغنّى المسموع.
ولا أبالغ أن قلت إن هذه الإستراتيجيَّة -إستراتيجيَّة صناعة حكاية الحكاية- سيطرت حتَّى على المنهج النقدي للدكتورة لمياء.
قد يسترجع ممَّن يقرأ هذا الموضوع من الذين حضروا الجلسات النقديَّة للدكتورة لمياء، كيف كانت تُلقِّي علينا أوراقها النقديَّة كأنَّها «تحكي لنا حكاية» تفتح لنا أبواب عالم سحري وتُدخلنا إيَّاه عبر نبرة صوتها الشهرزادية وطريقة إلقائها وأحيانًا تدعمها بعروض تقديمية لتكتمل روح العالم السحري للحكاية عبر الصورة التعبيرية.
فصناعة حكاية الحكاية عند الدكتورة لمياء باعشن تتجاوز المنطوق المرئي أو السمعي لتستعمر جميع الحواس لتكتمل دائرة العالم السحري.
ولذلك فالدكتورة لمياء باعشن أول -وفق ما أعلم- من استخدم التقنيَّة الحاسوبية في تصميم عروض دراساتها النقديَّة لتحقق الخاصية السحرية لتكتمل صناعة حكاية الحكاية.
وما يدل على أن روح صناعة الحكاية عند شهرزاد الحجاز لمياء باعشن ليست اقتضائية مرتبطة بطبيعة مشروعها إحياء التراث الحجازي بل هي جزء من روح وطبيعة الدكتورة لمياء باعشن.
أن البيئة الاجتماعيَّة التي تربت فيها الدكتورة لمياء باعشن كما تصفها لنا الدكتورة لمياء كانت صاقلة لروح الحكاية فقد تربت وسط مصادر حكايات مختلفة ومتنوّعة وهو ما مهد لها كينونتها الحكائية.
حتى إنني أظن أحيانًا أن الدكتورة لمياء باعشن عندما تحكي لنا بعض الحكايات الحجازية أنَّها خرجت من عالم الحكايات، فهي تملك ذخيرة وافرة من الحكايات الحجازية والحكايات العالميَّة المشابهة بالمحيط العلائقي للحكايات الحجازية، وهذا ما يعلَّمنا إيَّاه التراث «عالميَّة الوحدة الإنسانيَّة»، ولكن ليس هذا ما يدهشك فقط من الدكتورة لمياء الذخيرة الوافرة من الحكايات التراثية - فكل امرأة تستطيع أن تنقل لنا حكاية، لكن ليس كل امرأة تستطيع أن تحكي لنا حكاية أو تصنَّع لنا حكاية الحكاية وهذا هو معيار «الهوية الشهرزادية» صناعة حكاية الحكاية-.
إنما أيضًا ما يُدهشك طريقتها في حكاية الحكايات، تلك الطريقة الشهرزادية القادرة على التسلَّل إلى وعيك ورسم تفاصيل صور الحكاية حتَّى تحسب نفسك أحد أبطال تلك الحكاية.
إن الحكاية ليست خبرًا منقولاً أو حادثًا ماضويًا مفقود الروح، أنَّها فنيَّة «خلق الروح» للخبر المنقول أو الحدث الماضوي؛ إنّها إعادة «خلق» «إخراج الحي من الميِّت» هذا هو أصل الهوية الشهرزادية للحكاية التي أعادت إحيائه الدكتورة لمياء باعشن سواء عن طريق مشروعها إحياء التراث الحجازي أو من خلال دراساتها النقديَّة.
لذلك استحقت أن تكون «شهرزاد الحجاز».
جدة