لما كان للإنسان عينان اثنتان، لماذا يرى الشيء واحداً ولا يراه شيئين؟!
هذا سؤال علمي قاد إلى فكرة العدسة، وقاد بالتالي إلى الصورة الثابتة!
ولكنه سؤال فلسفي أيضاً ينبغي أن يقودنا إلى معرفة الحقيقة المطلقة، وليس إلى الحقيقة النسبية!
يعتقد البعض أن فن الصورة الثابتة والصورة المتحركة قد قطع شوطاً في التقدم، وحقيقة الأمر أن كل التطورات التقنية الحاصلة بعد تحريك الصورة في نهايات القرن التاسع عشر لم ترتق بعد إلى مستوى الصورة التي بلغت ذروتها في بدايات القرن العشرين ونحن اليوم في القرن الحادي والعشرين!؟ السبب في أن نوعية الصورة وعلاقتها بالعين جمالياً وفيزيائياً هي عبر فيلم السليلويد أرقى بكثير وبما لا يقاس من نوعية الصورة على الديجيتال والذاكرة التي اتخذتها الكاميرا بديلاً عن فيلم السليلويد التقليدي.
لكن خبراء الصورة وتقنيات التصوير والعلماء وبنضال صبور ومستميت من قِبل الشركات العملاقة المنتجة للتقنية يبذلون جهوداً جبارة من أجل تقريب مستوى الصورة إلى مستواها الفني والجمالي على أشرطة السليلويد في بدايات القرن العشرين. والسؤال: لماذا جاءت الصورة الرقمية واعتمدت عالمياً وتم الطلاق مع صورة السليلويد!؟ لأن حجم معدات التصوير وآليات العمل كانت مرهقة، وكذا الجانب الاقتصادي وحاجة تلك الصورة إلى كميات كبيرة من الضوء، فجاء البديل صغير الحجم أكثر قبولاً لإنارة الشمعة في تحقيق صورة واضحة وأكثر قبولاً وانسجاماً مع الأجهزة الآلية وما يطلق عليه الكاميرا الآلية في طريقة تحريكها حتى في أعماق البحار واكتشاف المجهول الجميل. وهو ما يشكل عائقاً أمام تقنية السليلويد ومعدات تصويره في حرية الحركة وكمية الضوء وتطور فن التلفزة الفضائية.
ولكن، بقي العلماء يواصلون النضال من أجل تحقيق البديل الكامل لمستوى الصورة السليلويدية رقمياً.
يبشر الخبراء باقتراب الحل، وهو بات على الأبواب، في اختراع كاميرا جديدة صغيرة واقتصادية ذات بُعد وقيمة سينمائيَّيْن بالكامل. وبدأ شكل الوليد يظهر على الشاشة، وإذا بهذا الوليد جهاز صغير بسيط، يبدو كأنه لعبة للأطفال، ولكن بمكوناته وإكسسواراته يصبح ملء العين ومقنعاً في تكوينه بل وبجمال تكوينه.
باختصار هو غلاف بلاستيكي وعدسات وما يحويه الغلاف البلاستيكي من مادة الذاكرة والمعرفة وفرز الألوان وإعادة وحدتها لتحقق صورة تقنع العين وتريحها وتمنحها فرصة المتعة بالقيمة الجمالية. هذا الغلاف البلاستيكي الجديد وعدساته هو الذي يقترب من حجم الشاشة السينمائية ونوعية الصورة عليها بما يقترب من صورة السليلويد. وهذه الكاميرا هي جهاز اقتصادي وحنون شكلاً ومضموناً، وهو غرفة بلاستيكية صغيرة تسكن فيها بضعة مكونات تقنية.
البلاستيك هو مادة نفطية!
والنفط في بلادنا ومن بلادنا!
والضوء هو مصدر الصورة، والشمس مصدر الضوء!
والشمس أيضاً في بلادنا ومن بلادنا!
بقيت العدسات، فإنها من ابتكار ابن الهيثم البصري!
وابن الهيثم في بلادنا ومن بلادنا، هو من مدينة البصرة جنوبي العراق!
تساءلت وأنا أنتظر هذا الوليد الجميل لأقتنيه، لحنيني للصورة السينمائية، حنيناً لا يقبل البديل المتطور إلا شبيهاً متطابقاً.. تساءلت: لماذا لم تحاول دولة واحدة من بلداننا الثرية بمواردها الطبيعية تأسيس معهد علمي ومؤسسات بحث وتصنيع للكاميرا ودراسة فن الصورة؟ حاولت أن أفهم السبب لأن العلم يقول «إذا عُرف السبب بطل العجب». إنني أبحث في كل هذه الثورات العربية والثورات التي قبلها والتي قبلها والثورات الآتية بعدها والثورات والثورات المضادة ولصوص الثورات، هل قادتنا كل تلك التحولات إلى تأسيس معهد علمي ومصانع ليست عملاقة لتصنيع العدسات ونحن أصحابها، وتغليفها في علب بلاستيكية من مادة النفط ونحن أصحابها؟ ثم فجأة شعرت بالخوف وأنا أكتب. وتذكرت تظاهر ابن الهيثم بالجنون لكي يتركه المجتمع العبودي وينساه ويركن في بيته ليجيب عن الأسئلة التي تزدحم في ذهنه.
أخشى أن يكون من غير المسموح تجاوز الخط الأحمر، الخط الذي يفصل بين الإنتاج والاستهلاك، أو أننا متخلفون؛ إذ لا أظن ثمة رقيباً يسلط السيف فوق رؤوسنا حتى في التفاصيل الصغيرة لحياتنا، أن نصنع كاميرا ونطوِّر فكرة الكاميرا، ونطوِّر العدسات، ونعرف أسرار المهنة.. لماذا يرمي أصحاب الرساميل بأموالهم لبعثرتها في الفضاء للمساهمة في إلغاء العقل، ويبخلون في تحقيق منجز علمي واحد، يجعل إنسان الشرق الأوسط موقع نشوء الحضارات الإنسانية، يشعر بإنسانيته وهو الذي رسم شكل المجتمعات واستقرأ الواقع ميثيولوجياً لكي يرفد اللاهوت بالقصص والحكايات والأساطير والتفوق فتنشأ بسببه مجتمعات ديمقراطية في الغرب تمكنت من التفوق في كل مناحي الحياة!؟ لقد باتوا يعرفون ويحاولون أن يعرفوا أكثر ذلك التاريخ، تأريخنا المدون قبل ما يقرب من سبعة آلاف عام، فصرنا اليوم نستهلك كل شيء، نستهلك حتى الصورة التي رسمنا علميتها في بحوث ابن الهيثم من مدينة البصرة جنوبي العراق.
أعرف أن تحت المتحف البريطاني ثمة مدرسة غير مسموح بدخولها للزائر والسائح. وجود هذه المدرسة شيء يشبه الكذب. كنت أرغب ليس بدخولها بل أن أحمل كاميرتي الرقمية الصغيرة والحرفية طبعاً لتصوير ما أراه هناك. قدمت طلباً لإدارة المتحف البريطاني. استغرقت المراسلات والموافقات قرابة ستة أشهر بسبب كون الزيارة لأغراض التصوير. قدمت لي أوراق يصعب قراءتها كتلك التي تكتبها المصارف خلف عقود فتح الحسابات، كانت في موافقة التصوير شروط قاسية وغرامات لم يستطع وطني أن يسددها لي بكل ثرواته النفطية لو حصل ما لا يمكن تلافيه. مع شرط أن لا يستغرق مكوثي داخل المدرسة أكثر من ساعة واحدة فقط، وكان علي أن أوافق على الشروط، وأن أحذِّر مصوري من كل حركة نقوم بها في تلك المدرسة التي تقع تحت بناية المتحف البريطاني!
ونزلنا السلالم!
sununu@ziggo.nl
- هولندا